+ -

 أذكر تلك اللحظات التي عشتها قبالة جدار العار.. جدار الذل.. أذكرها وكأنها اللحظة.. جدار فاصل ما بين أبناء شعب واحد.. ما بين أفراد عائلة واحدة، ما بين الأب وابنه والمرء وزوجه، أتذكر يومها أني بحثت عن العرب بين مئات الأشخاص الذي شكلوا جسرا بشريا من مختلف الجنسيات، لكني أيقنت أن لهتافنا “يا للعار يا للعار.. العرب دون قرار” أكثر من معنى، كانت أعدادنا بالمئات وجنسياتنا بالعشرات، جزائرية وموريتانية وإيطالية وإسبانية وأمريكية وألمانية وسويدية وبريطانية وسويسرية ومن جنوب إفريقيا، لكن العرب أكدوا أنهم سبب دمار شعوبهم.رحلة 90 كم.. شاقة وشيقةكانت رحلتنا إلى هناك شاقة وشيقة في آن، كنا 8 أشخاص ما بين صحفيين ومصورين، إلى جانب السائق، في سيارة رباعية الدفع كانت واحدة من عشرات السيارات الأخرى، قطعنا مسافة 90 كم تحت أشعة شمس حارقة، حيث كان العرق يتصبب منا، أفرغنا فحوى كل قارورات الماء التي أخذناها معنا، بل تراشقنا حتى البالونات المائية.. تبللنا إلا أن درجة الحرارة العالية ما كانت تنفك تجففنا في دقائق معدودات، مع مرور الوقت خارت قوانا وانتابنا عطش شديد بعد أن نفدت المياه، لكن الأغاني الوطنية التي كنا نمزجها بهتافات صحراوية من قبيل “لا بديل لا بديل عن تقرير المصير”، “صحراوي صحراوية أيدي في ايدك للحرية”، كانت تخفف عنا تلك المعاناة التي جعلتني في لحظة من اللحظات أتساءل عن سر صمود الصحراويين الذين قست عليهم دولة جارة، لتزيدهم قساوة الطبيعة عناء..كان موكب السيارات الرباعية الدفع يسرع حينا ويبطيء حينا، يمضي أشواطا ويتوقف شوطا، في تلك الدقائق التي كان الموكب يتوقف فيها، كانت لغة التضامن هي اللغة الوحيدة التي يتحدث بها المشاركون المساندون للشعب الصحراوي ولحقه في تقرير مصيره، كانت القضية الصحراوية عنوان حواراتنا ودردشاتنا.. كل من لديه شربة ماء يتقاسمها مع آخر، ومن له قطعة رغيف يشاطرها غيره، وقتها انصهرت الجنسيات وتعايشت الديانات، ولم يعد لاختلاف لون البشرة معنى.. قضية شعب صمد دهرا في وجه الانتهاكات، وألغت التجاوزات اختلاف اللغات، الكل كان يتكلم لغة واحدة “لا استقرار ولا سلام قبل العودة والاستقلال التام”.أنشدنا “قسما” و “من جبالنا طلع صوت الأحرار”، “عليك مني سلام”، “موطني”.. غنينا كل ما علمتنا إياه الحياة ورفعنا الأعلام.. وفي كل مرة كنا نسأل السائق الصحراوي الذي كان صبورا جدا عن المسافة المتبقية للوصول إلى جدار العار، كان يرد “قريب نوصل لم يبق إلا القليل” ويشير بيده بأنها على مرمى البصر.. لكن ذلك القليل كان بعيدا.. تذكرت وقتها أنها لغة لا يفهمها إلا الصحراويون الذين تعلموا الجلد وسعة الصدر وطول البال، لغة يفهمها أولئك الذين طبعت قسوة الطبيعة محياهم فصبغت أديمهم، لغة يفهمها أولئك الذين وقفوا في وجه الطبيعة من جهة وصمدوا في وجه من احتل أرضهم وانتهك حقوقهم الإنسانية واستغل ثرواتهم الطبيعية من جهة أخرى.. جعلهم شعبا فقيرا رغم أن بلدهم غني.كانت الطريق وعرة للغاية مع تعرجات مملوءة بالحصى وغير مهيأة، أراض قاحلة ترى فيها شجيرة هنا وأخرى مترامية هناك، وقليلا من الأشواك.. بعد قرابة 3 ساعات أو أكثر بقليل، وصلنا منطقة الربط حيث كانت الخيام منصوبة، تعالت الزغاريد وانطلقت الهتافات وتطايرت البالونات الحاملة لعلم الجمهورية الصحراوية، ولجنا الخيمة الرئيسية التي اكتظت عن بكرة أبيها، واتخذنا مجلسا على الأرض فيها، واستمعنا للخطابات الحماسية التي كان يلقيها أعضاء الجمعيات الحقوقية، واستقينا بعضا من المعلومات حول الجدار الفاصل ما بين الأراضي المحتلة والمحررة.يا شهيد ارتاح ارتاح.. سنواصل الكفاحبعد أن سُقينا شربة حليب وماء، وارتدينا أقمصة مساندة للصحراويين، توجهنا صوب الجدار، وفق الحدود التي وضعت للمشي في المسيرة، إذ وُضعت حجارة على طول شريط مضينا وسطه، حملنا الأعلام الصحراوية التي عانقت الأعلام الجزائرية ورفرفت عاليا، اعتراني شعور غريب تجاوز الحماسة، إلا أن حزنا عميقا لفها، وغضبا عنيفا اجتاحها، كيف لا ونحن أمام جدار هو أقرب ما يكون إلى جدار الفصل العنصري الذي أقامه الاحتلال الإسرائيلي على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل وقد ساهم الصهاينة في تشيد جدار العار المغربي في منطقة الربط، ليقسم الصحراء الغربية إلى قسمين.. كنا قبالة الجدار ولم تكن تفصلنا عنه إلا حوالي 45 كم، وبيننا سيارة صحراوية بها مكبر صوت انطلقت منه أغان وطنية صحراوية، فيما كنا نردد شعارات داعية لإعطاء الشعب الصحراوي حقه في تقرير مصيره، وكان عناصر الجيش المغربي قبالتنا خلف جدار الذل حاملين المنظار، ومعهم مراقبون من البعثة الأممية لتحديد تاريخ الاستفتاء في الصحراء الغربية المينورسو، ولم تثن الزوابع الرملية حينها من عزائم المشاركين، في جدار بشري ظل ينادي بإعطاء الشعب الصحراوي حقه في تقرير مصيره.كنا جدارا بشريا قبالة جدار مغربي صهيوني، جدار يمتد على طول 2700 كلم وعرض 5 كيلومترات، ويتخندق خلفه 22 ألف جندي مغربي، ويتواجد على طوله 7 ملايين لغم، حيث تركت خلال 15 سنة من القتال، ما بين القوات المغربية وجبهة البوليساريو ما بين 1975 و1991، الكثير من الأراضي الملوثة بالألغام الأرضية المضادة للأفراد والآليات.بعد انتهاء وقت وقفتنا الاحتجاجية ومسيرتنا تجاه جدار العار والذل، عدنا أدراجنا نحو السيارات رباعية الدفع التي أقلتنا، هناك أحضر سائق السيارة لكل منا علبة وضع فيها القليل من الأكل، لكن القليل بالنسبة لنا يعد كثيرا بالنسبة لهم.. تلك العلب كان على السائق أن يزاحم ويتدافع وسط المئات ليظفر لنا بها.. كم هي قاسية هذه الدنيا.. كم هي قاسية مطامع دول تجعل من صاحب الأرض الغنية فقيرا.. كم هي قاسية أنانية دول تستغل ثروات وخيرات شعب يضطر للجوء في المخيمات والعيش على المساعدات، رغم ثرواته السمكية الهائلة وخيراته الطبيعية الكثيرة، كم هي قاسية وبشعة سياسة دول تلعب على الحبلين، وأخرى تستغل عضويتها في مجلس الأمن الدولي لتشرد أطفالا لا ذنب لهم سوى أنهم صحراويون.ثورة كرامة.. لا ثورة بطونبعد إنهاء أكلنا، اتكلنا على الله وبركته، التقى الموكب عند نقطة واحدة، ثم كان الإقلاع والمسير، ليخيل إليك أنك في رالي للسيارات الرباعية الدفع، واتجهنا نحو مخيمات “العزة والكرامة”، وتحديدا إلى مخيم ولاية السمارة، في طريق العودة صادفنا جنودا صحراويين، في صحراء قاحلة تنعدم فيها الحياة، هم جنود وهبوا أنفسهم وحياتهم خدمة لبلدهم، لا تكسرهم الصعاب ولا شبح الموت الذي يهدد حياتهم في كل لحظة وآن، ولا خطر الألغام المترامية هنا وهناك، همهم الوحيد أن فداء الصحراء بالأرواح.. بالكفاح والسلاح.. وصلنا السمارة فاستقبلتنا النسوة الصحراويات بالزغاريد، وظل الأطفال الحاملون لبراءة ما انقطعت رغم الأقدام الحافية يركضون وراء الموكب ويصفقون إلى غاية توقفه.مخيمات “العزة والكرامة”.. تمخض عن ثورة كرامة لا ثورة بطون.. مكتفون ببض المساعدات من هنا وهناك، إلا أن قضيتهم فوق كل اعتبار، توجهت إلى خيمة السيدة أميناتو التي تحكي تقاسيمُ وجهها المسمر ألف قصة وقصة، تروي حكاية المرأة الصحراوية العنيدة القوية الصامدة رغم الظروف القاسية، حكاية أمل رغم المعاناة، ارتميت في حضنها.. قبلتها.. لفتني بذراعيها.. مسحت بيدها على رأسي، سألتني إن كنت متعبة من الرحلة، متناسية تعبها وإرهاقها وهي التي قسا عليها الزمن وهُجِّرت من ديارها إلى المخيمات، أميناتو لم تزدها قسوة الاستعمار إلا حنانا وهدوءا، مكتفية بخيمتها التي استضافتنا فيها طيلة 5 أيام، بعيدا عن صخب العاصمة والشجار مع الحياة لأتفه الأسباب، وأغدقت علينا بعطائها ومقاسمتنا قوتها.. في مخيمات “العزة والكرامة” أدركت المعنى الحقيقي لأن القناعة كنز لا يفنى، تعلمت معنى أن يقاسم الشخص رغيفه على قلته، وفهمت معنى إيثار النفس من أجل الغير، وأيقنت أن فاقد الشيء يمكن أن يعطي عكس ما هو مروج له وشائع، عرفت معنى أن نقدم من شيء نحن بالأصل نفتقده.. شكرا أميناتو منك تعلمت أن الحياة ليس في شقة من عدة غرف ولا فيلا بطوابق ولا قصور بخدم وحشم، فقد تكون في خيمة بحصير على الرمل وبراحة بال وعزم على استرداد الحق المسلوب.. لا تكون بلباس فاخر ولا عطور باريسية ولا مساحيق أوروبية، بل بملحفة ونيلة وزيت خروع.. لك مني ألف تحية أميناتو.. مثال المرأة الصحراوية الصامدة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: