+ -

 في سورة الشّعراء تستوقفك صور تربوية واجتماعية رائعة، تعلّمك كيفية التّفاعل والتّعامل مع كلّ مرحلة على حدة من مراحل متطلّبات الجدال مع مَن يخالفك الرأي، ويُستنبط منها ما يجب فعله عند نقطة التّصعيد القصوى للحوار بالتوجّه العكسي لمنحنى تصاعد الطبقات الصوتية والجنوح لتخفيف حدّته في اللّحظة الفارقة، وربّما أيضًا السّعي جاهدًا لإيجاد مساحة للتّلاقي. إنّ ما فعله موسى عليه السّلام مع فرعون وما دار بينهما، ليبدأ بالتّصعيد الحاد في اللّهجة لسيّدنا موسى (حسب مقتضيات النقاش) كرد فعل منطقي لسؤال فرعون المستفز والمستهزئ {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ؟} بجوابه: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ}، ليأتي ردّ محاوره مستخفًّا أكثر: {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} فيعقّب النّبيّ موسى بتحدٍ وثقة أكبر مع زيادة في نبرة اللهجة: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ} ليكون ردّ فرعون متوقّعًا فيه تهكّم وازدراء: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}، وهنا يبرز جليًّا علوّ طبقات أصوات المتحاورين التي تبدو أكثر انفعالاً وشدّة، فيزيد سيّدنا موسى من رفع التّحدّي باستماتة أكثر في تعريف ربّه الّذي يعبده لمجادليه بمفهوم أوسع يتجاوز محيطهم بكثير: {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}.فيلجأ فرعون كحلّ أخير للغة المهزوم، التّهديد والوعيد بعد أن شعر بالإحراج {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}. وهنا تأتي النقطة الفارقة من التحوّل التنازلي في توجيه دفّة الحوار من طرف موسى عليه السّلام بجنوحه لرقّة وهدوء أكثر في الصّوت والطّرح، من خلال الانتقال بمجادله إلى مساحة ممكنة للتّلاقي، فربّما استدرك في هذه اللّحظة سيّدنا موسى وصيّة ربّه له حول طريقة الحوار {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أو قد أعطى أيضًا اعتبارًا لسنوات الطفولة الّتي قضاها في القصر عندما بادره فرعون بقوله {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ؟}.لذلك أجابه بقول فيه الكثير من اللين والهدوء، يخاطب القلب بشيء من التّرغيب بقوله لفرعون: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ؟}. وهنا العجب أيضًا في المحصّلة والنتيجة وردّ الفعل من خلال التّجاوب الإيجابي السّريع (حتّى من فرعون المتكبّر المستبد برأيه) مع توجّه ومنحنى الحوار الجديد الّذي فرض عليه بردّه الهادئ لموسى: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.وهنا نتعلّم أنّ الجدال والحوار المثمر والمرجو منه الفائدة لا يجب أن يكون تصاعديًا وتصادميًا على طول الخط، بل يجب أن يشهد مرحلة هدوء والبحث عن نقاط تلاق ليكون بنّاءً ومجديا، وهو ما يجب أن يكون جزءًا من ثقافتنا الحوارية امتثالاً لقيم ديننا وقرآننا العظيم، ونستشف أيضًا النُّكْتَةُ الطيّبة (بتعبير أهل البلاغة في توصيف الفكرة النافعة) حول الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم من أنّ نصوصه لا تقدّم للمتلقّي أو السّامع روايات صامتة، بل أيضًا مشاهد تصويرية تفاعلية غاية في الدقّة والتّوصيف والرّوعة، كأنّها تحدث أمام ناظرك وتنقل لك تفاصيل الأحداث وانفعالات أبطالها حتّى من الصّوت والحركة، إنّه بحقّ القرآن الكريم الّذي لا تنقضي بل تزداد عجائبه وإعجازه كلّما تعمّقت فيه أكثر.  

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات