+ -

يقول الحقّ سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}. بعض الخليقة تجعل من مواسم الطّاعة مرتعًا لنيل اللّذّات بكلّ أنواعها، وهو مرتع وخيم على صاحبه، إذ به يخرج من الشّهر كما دخل، بل ربّما أفسد ممّا كان عليه قبل رمضان، وتزداد المسافة بينه وبين حقيقة قصد الآخرة، وتتكاثف عليه غيوم الشّهوات حائلة بينه وبين الوصول إلى الله. إذا كان شهر رمضان هو شهر الصّوم والصّبر، فما أحرانا أن نتذوّق حقيقة الصّبر لنتذوّق حقيقة الصّوم، فأمامنا في سعينا إلى الخيرات في هذا الشّهر صبر عن المحارم، وصبر على الطّاعات.وأنواع الصّبر هذه هي أوسمة الولاية وقلادات الإمامة في الدّين، يقول أهل العلم: إنّما تُنال الإمامةُ في الدّين بالصّبر واليقين، واستدلّوا بقول الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، يقول ابن القيم رحمه الله: (إنّه لا خلاف بين أهل العلم أن أظهر معاني الصّبر: حبس النّفس على المكرمة، وأنّه من أصعب المنازل على العامة وأوحشها في طريق المحبّة، وإنّما كان صعبًا على العامة لأنّ العامي مبتدئ في الطّريق، وليس له دربة في السّلوك، وليس تهذيب المرتاض بقطع المنازل، فإذا أصابته المحن أدركه الجزع، وصعب عليه احتمال البلاء، وعزّ عليه وجدان الصّبر؛ لأنّه ليس في أهل الرياضة فيكون مستوطنًا للصّبر، ولا من أهل المحبّة فيلتذّ بالبلاء في رضا محبوبه).فممّا سبق نعلم أنّ شهر رمضان ميدان رحب لممارسة رياضة الصّبر، فإذا فعلنا ذلك وجدنا أنفسنا إلى الخير وثابة، وعن الشرّ هيابة، فلم يبق إلاّ أن نُعالج الخطرات والوساوس الوالجات في حنايا قلوبنا.وليت شعري ما أشبه قلوبنا بالمريض في غرفة العناية المركّزة، فإنّه محروم من كلّ طعام يفسد دورة علاجه، بل محروم من مخاطبة أقرب الأقربين، لتتفرّغ أجهزة جسمه للانتعاش واسترداد العافية، ثمّ إنّه يتنفّس هواء معقّمًا خاليًا من كلّ تلوث، وتدخل في شرايينه دماء نقيّة لتمدّه بأسباب القوّة، ويُقاس نبضه ودرجة حرارته في كلّ حين ليتأكّد الطبيب من تحسّن وظائف جسمه، فما أحرى هذا القلب السّقيم الّذي أوبقته أوزاره، وتعطّن بالشّهوات، وتلوّث بالشّبهات، وترهّل بمرور الشّهور والدّهور دون تزكيّة وتربيّة، ما أحراه أن يدخل غرفة العناية المركّزة في شهر رمضان، فتكون كلّ إمدادات قوّته مادة التّقوى، الّتي هي غاية صومه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.فلنصدر مرسومًا على أنفسنا أن نُلزِمَها جناب الحشمة في هذا الشّهر أمام شهوة البطن وغيره، فإن أعلنتَ علينا التمرّد، فلا نتردّد في فرض الأحكام الاستثنائية، وإصدار قرار باعتقال هذه النّفس النّاشز وإدخالها سجن الإرادة حتّى تنقاد لأوامرنا إذا صدرت، فإن ازداد تمرّدها وتجرّأت في ثورتها فلنلهب ظهرها بسياط العزيمة، ولنعنِّفها على مخالفتها أوامرنا وعصيانها إرادتنا، فإن أبَت إلاّ الشّرود، فلنلوِّح لها بحكم الإعدام، وأنّها ليست علينا بعزيزة، فإن تمنّعت إدلالاً وطمعًا في عطفنا، فلا بدّ من تنفيذ حكم الإعدام في ميدان العشر الأواخر، وذلك بحبسها في معتكف التّهذيب، حتّى تتلاشى تلك النّفس المتمرّدة وتفنى، وتتولّد في تلك اللّيالي والأيّام نفس جديدة وادعة مطمئنة، تلين لنا عند الطّاعات إذا أمرناها، وتثور علينا عند المعاصي إذا راودناها، فقد ولدت ولادة شرعية في مكان وزمان طاهرين، ونشأت وتربَّت في كنف الصّالحين، فلن نراها بعد ذلك إلاّ على الخير، وعندها تحصيل حلاوة الطّاعة: “ذاق طُعم الإيمان مَن رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم رسولاً”، “ثلاثة مَن كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: مَن كان الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، ومَن كان يحبّ المرء لا يُحبّه إلاّ لله، ومَن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النّار”، ولمّا نهى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أصحابه عن الوصال قالوا: إنّك تواصل، قال: “إنّي لستُ كهيئتكم، إنّي أُطْعَم وأُسْقَى”، قال ابن القيم: (وقد غلُظَ حجاب مَن ظنّ أنّ هذا طعام وشراب حسّي للفم)، ثمّ قال: (والمقصود أنّ ذوق حلاوة الإيمان والإحسان أمر يجده القلب، تكون نسبته إليه كنسبة ذوق حلاوة الطّعام إلى الفم). ولنعلم أنّ كلمات القوم في هذا الباب رسوم، وإرشاداتهم في هذا الباب عموم، ولا تبقى إلاّ الحقيقة الثابتة في نفسها، وهذه لا يَنالها إلاّ من أناله الله إيّاها، ومَن ذاقَ عَرَف، فلنكُن من هذا على ذِكْرٍ. والله وليّ التّوفيق.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات