+ -

ربنا سبحانه اختار المتقين فوهب لهم أمْنًا وإيمانًا، وعم المذنبين بحلمه ورحمته عفوًا وغفرانًا، لم يقطع أرزاق أهل معصيته جودًا وامتنانًا، حذر من يوم الحساب بجسيم كربه، ودعا المذنب إلى التوبة لغفران ذنبه، رب عظيم لا يماثل الأنام، وغني كريم لا يحتاج إلى الشراب والطعام، الخلق مفتقرون إليه على الدوام، ومضطرون إلى رحمته في الليالي والأيام.

ألاَ فلنختم شهر رمضان بالتوبة إلى الله من معاصيه، والإنابة إليه بفعل ما يرضيه، فإن الإنسان لا يخلو من الخطأ والتقصير، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون.وقد حث ربنا في كتابه، وحث المصطفى صلى الله عليه وسلم في خطابه على استغفار الله تعالى والتوبة إليه: {وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبكُمْ ثُم تُوبُوا إِلَيْهِ، يُمَتعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمى وَيُؤْتِ كُل ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلكُمْ تُفْلِحُونَ}. والآيات في ذكر التوبة عديدة، وأما الأحاديث فمنها: عن الأغر بن يسار الْمُزَني رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مئة مرة”، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة”.ترى ماذا تعني التوبة؟ إنها تعني الرجوع من معصية الله إلى طاعته؛ لأنه سبحانه هو المعبود حقا، وحقيقة العبودية هي التذلل والخضوع والمسكنة للمعبود محبةً وتعظيمًا، فإذا حصل من العبد شرود عن طاعة ربه، فتوبته أن يرجع إليه ويقف ببابه موقف الفقير الذليل الخائف المنكسر بين يديه، والتوبة واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها، لأن الله أمر بها ورسوله، وأوامر الله ورسوله كلها على الفور والمبادرة.والتوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شرائط التوبة ومن ذلك أن تكون خالصة لله عز وجل، بأن يكون الباعث لها حب الله وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه، فلا يريد بها شيئًا من الدنيا ولا تزلفًا عند مخلوق، فإن أراد هذا لم تقبل توبته، وأن يكون نادمًا على ما سلف من ذنبه، يتمنى أنه لم يحصل منه لأجل أن يحدث له ذلك الندم إنابة إلى الله وانكسارًا بين يديه ومقتًا لنفسه التي أمرته بالسوء، فتكون توبته عن بصيرة، وأن يقلع عن المعصية فورًا، فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال، وإن كانت بترك واجب فعله في الحال، إن كان مما يمكن قضاؤه كالزكاة والحج، فلا تصح التوبة مع الإصرار على المعصية، فلو قال: إنه تاب من الربا مثلاً وهو مستمر على التعامل به لم تصح توبته، ولم تكن هذه إلا نوع استهزاء بالله وآياته، فلا تزيده من الله إلا بُعدًا، وإذا كانت المعصية فيما يتعلق بحقوق الخلق لم تصح التوبة منها حتى يتخلص من تلك الحقوق، وإن كانت معصيته بغيبة مسلم وجب أن يستحله من ذلك، وأن يستغفر له ويثني عليه في المجلس الذي اغتابه فيه، فإن الحسنات يُذهبن السيئات. ومن شروط التوبة أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى المعصية؛ لأن هذه ثمرة التوبة ودليل صدق صاحبها، فإن قال: إنه تائب وهو عازم أو متردد في فعل المعصية يومًا ما لم تصح توبته؛ لأن هذه توبة مؤقتة يتحين فيها صاحبها الفرص المناسبة، ولا تدل على كراهيته للمعصية وفراره منها إلى طاعة ربه.ومتى صحت التوبة باجتماع شروطها، محا الله بها ذلك الذنب الذي تاب منه وإن عظُم: {قُلْ يَا عِبَادِي الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، إِن اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحِيمُ}، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُم يَسْتَغْفِرْ اللهَ يَجِدْ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا}. والله ولي التوفيق.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات