طرايدية يقدم صورة مغايرة عن حكايات الاستقلال

+ -

تعود إلى الواجهة الأفلام الجزائرية الروائية الطويلة المنتجة في إطار تظاهرة “خمسينية الاستقلال”، عبر تجربة مختلفة يقدمها المخرج الجزائري المقيم في هولندا كريم طرايدية عبر فيلم “وقائع قريتي”، سيناريو وإخراج كريم طرايدية، حيث يفتش الفيلم لمدة 98 دقيقة في دفاتر الذكريات ويتوقف عند ملامح إحدى القرى بالشرق الجزائري خلال الثورة وفجر استقلال الجزائر،  في حكاية الطفل بشير التي تبدو إلى حد بعيد السيرة الذاتية لطفولة المخرج. يحب المخرج كريم طرايدية العمل في صمت، لا يظهر إلا قليلا في الساحة السينمائية الجزائرية، زادته الغربة عزلة عن الأضواء في الجزائر، يعود بعد 16 سنة لتقديم فيلمه الروائي الطويل الثالث. فبعد تطرقه إلى الواقع والحكايات الاجتماعية، يأتي مدفوعا إلى حكايات الماضي والطفولة وتاريخ الجزائر، ليصنع مسيرة سينمائية متعددة التجارب، منذ أن عرف الطريق إلى مسابقة “أسبوع النقاد” لـ”مهرجان كان السينمائي” عام 1998 بفيلمه الروائي الطويل الأول “العروس البولندية”.رؤية جديدة ببعد إنسانيعاد كريم طرايدية إلى السينما الجزائرية ليقدم “وقائع قريتي”، بعد أن التفتت أموال “خمسينية الاستقلال” إلى مخرجي المهجر، وأعطت الفرصة مرة واثنين وثلاثا، فكانت النتيجة أفلاما بمستويات متباينة، معظمها متواضع، كتجربة رشيد بلحاج ورشيد بوشارب. راهن المخرج في الفيلم على البعد الإنساني، فكرة بلا شك تحتاج إلى سيناريو قوي، ربما أقوى بكثير من الذي كتبه كريم طرايدية، فيما يبدو بكثير من الحب والتحدي، فليس الفيلم وحده من يتحدث هنا، بل أيضا حكاية المخرج وطفولته.نجد للغربة التي تحيط بيوميات كريم طرايدية، منذ أن استقر في هولندا قبل نحو 25 عاما، لمسة خاصة في طريقة تناول فيلمه الجديد “وقائع قريتي”، على خلاف باقي التجارب السينمائية الثورية الجزائرية كالتي يقدمها أحمد راشدي الذي نال حصة الأسد بإخراج ثلاثة أفلام عن الثورة وأبطالها “زبانة، لطفي، كريم بلقاسم”، ولخضر حامينا مع “غروب الظلال”، أو حتى “العربي بن مهيدي” للمخرج بشير درايس- يعرض ماس 2017- كلها أفلام أنتجت في إطار تظاهرة خمسينية استقلال الجزائر من طرف الوكالة الجزائرية للإشعاع الثقافي وبدعم من وزارة الثقافة، لكن المخرج يقدم تجربة سينمائية مختلفة، تعتمد أساسا على المقارنة في كل شيء.يمكن أن نفهم من الثلاث دقائق الأولى للفيلم خط سير الحكاية، عندما يقدم المخرج أحد جنود الاستعمار الفرنسي “فرانسوا” صديقا عطوفا على ابن القرية الطفل بشير، ويليه مشهد الجدة التي تغيب عنها مشاعر الحنان. يبدو الطفل بشير شقيا وذكيا وحاقدا كلما تعلق الأمر بعلاقته بأهله، لا يشبه المجتمع الذي كبر فيه، لا يشبه حتى والده (جسد دوره الممثل حسان كشاش). أما الأم (جسدت دورها الممثلة موني بوعلام)، فرغم أهمية الدور إلا أن الفيلم لم يعطها الحيز الكامل وما تستحق من حضور، كما أن مشاعرها لم تظهر على الشاشة، وكان مرورها متواضعا مقارنة بحضور الجدة التي أخذت الحيز الأكبر. المجاهد والد بشير هو الآخر نموذج للرجل اللامبالي بزوجته على وجه التحديد، أما الجدة (جسدت دورها الممثلة التونسية فاطمة بن سعيدان) التي سنلتقي بعشرات النماذج منها في قرى الجزائر، فتعكس مزاجية مفرطة يغيب عنها الحنان العقلاني في التعامل في كثير من المحطات، وترتفع لديها نسبة الأمومة إلى أبعد الحدود، وهي تعيل عائلة بأكملها من خلال غسل ملابس الجنود.وقائع العسل (طرايدية) والشوك (حامينا)من الصعب جدا أن نقرأ فيلما عن الثورة وأنتج في إطار تظاهرة جزائرية هامة “خمسينية الاستقلال”، دون أن نهتم بالغاية والتفاصيل التاريخية، كل شيء يحسب على هذا النوع من الأفلام. فهذه التجربة السينمائية إما تأريخ لمرحلة هامة فتحسن الطريق وتضع الأجيال القادمة أمام مادة سينمائية يمكن الاعتماد عليها في فهم الثورة الجزائرية، وإما أن تذهب بعيدا عن ذلك وتؤمن بأن السينما لوحة سينمائية جميلة تحمل قصة محبكة بسيناريو وأداء تمثيلي جيد. وبين هذا وذاك، يسقط فيلم “وقائع قريتي” في فخ المباشرة بشكل مستمر، حتى النهاية التي اختارها حملت خطابا سياسيا، ومقارنة لا مبرر لها بين الرئيسين الراحلين أحمد بن بلة وهواري بومدين، نلمس هذه المباشرة المفرطة في عدة أجزاء من الحوار والصور ومفهوم الاستقلال، لكنه يقدم في المقابل صورة إيجابية للمستعمر، لا نلمس بشاعة الاستعمار بقدر ما كان له طعم العسل في حلق الأطفال، مشهد السيدة الفرنسية التي تقدم العسل للأطفال والمدرسة التي تعلم أبناء الجزائر.يحيلنا العنوان أيضا على المقارنة بين تجربة سينمائية جزائرية خالدة “وقائع سنين الجمر”، في مغازلة من المخرج وكاتب السيناريو إلى تجربة أول فيلم عربي حائز على السعفة الذهبية، غير أن “الوقائع” التي اختارها كريم طرايدية من قريته لم تشبه “الوقائع” التي قدمها لخضر حامينا عن سنوات الجمر، وإن كانت الفترة ذاتها وروح الفيلم الثورة الجزائرية كفاح الشعوب، فما قدمه طرايدية حمل نكهة وطعما آخر لحكايات قرى الجزائر وحرب التحرير، المقارنة نشعر بها في الطفل بشير الذي لم يكن عمر “لو بتي عمر” الذي ظهر في “معركة الجزائر” ـ فيلم جزائري للمخرج الإيطالي الرّاحل جيلو بونتيكورفو عام 1966. فبشير الذي قدمه كريم طرايدية يبدو متعلما، مشاغبا، مشتت الأفكار حول مفهوم استقلال الجزائر، يحمل حبا كبيرا لأحد الجنود الفرنسيين، في مقابل ذلك لا يحن إلى والده.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات