+ -

إن هذه الأمة الإسلامية هي استجابة مباركة للدعوة الإبراهيمية التي رافقت بناء الكعبة المشرفة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبنَا تَقَبلْ مِنا إِنكَ أَنْتَ السمِيعُ الْعَلِيمُ *  رَبنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُريتِنَا أُمةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنكَ أَنْتَ التوابُ الرحِيمُ *  رَبنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكيهِمْ إِنكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. لا جرم أن الحكمة البالغة قضت أن يكون اجتماع المسلمين السنوي عند هذه البنية المباركة، متجردين من كل انتماء غير الانتماء للإسلام، تاركين كل الشعارات غير شعار التوحيد، تذكيرًا بميلاد هذه الأمة، كيف تأسست مُوَحدَة على التوحيد، واجتمعت مؤمنة على الطاعة، وتآخت على رب واحد، ورسول واحد، وكتاب واحد، وعقيدة واحدة، وشريعة واحدة، وقبلة واحدة، ورفعت لواء الإيمان والتوحيد في دنيا يلفها الكفر من أطرافها، ومقيمة الشهادة بهدايتها على البشرية التي ضلت سواء السبيل، وتنكبت الصراط المستقيم، مُعلية كلمة الله عز وجل ومستعلية بها: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى الناسِ وَيَكُونَ الرسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.وها نحن، والحمد لله، يحج منا كل عام آلاف، يتعبدون ويزدلفون ويخشعون ويبكون ويخبتون، ثم يرجعون إلى أوطانهم والآمال تحدوهم بغفران الذنوب وتكفير السيئات، ولكن كثيرين منهم لم يتغير منهم شيء، لا في قناعاتهم وأفكارهم، ولا في أخلاقهم وسلوكهم، ولو كان الحج يصلح حال الأفراد لانصلح حال الأمة؛ (لأن إصلاح الأمة يبدأ بصلاح أفرادها)، أو لبدت بوادر لهذا الإصلاح، اللهم إلا زيادة تختلف من شخص إلى آخر من التدين السلبي الذي يحرص صاحبه على نجاته، وربما نجاة أهله، ولكن لا يحركه إلى نفع الأمة، بل هو أصلًا لا يهتم لوضع الأمة، ولو أثر فيه الحج تأثيرًا ملموسًا لتقوى لديه الشعور بالانتماء إلى أمة التوحيد التي وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسهَرِ وَالْحُمى”.أفليس عجيبًا أن يجتمع المسلمون في الحج في كل سنة من كل فج عميق، ومع ذلك يبقى كثير منهم لا يشعر بأخوة الإسلام، ولا يهتم لأمر إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؟ أليس عجيبًا أن يجتمع مؤتمر الحج في كل سنة وتتعاون كل الدول الإسلامية في تنظيمه وتأطيره، ويهتم به كل المسلمين في العالم، ونحن نزداد تفرقًا وتشرذمًا؟ بل يقتل بعضُنا بعضًا نيابة عن الأعداء؟ بل إن دعاة التفريق والتمزيق بين المسلمين هم الأعلى والأسمع صوتًا!إن من أعظم مقاصد الحج تقوية روابط الوحدة بين المسلمين، وما دام الحج يعقد كل عام والأمة تزداد انقسامًا وانفصامًا عامًا بعد عام فهذا يعني أن ثمة خللاً في إقامة هذه الشعيرة العظيمة، وفي فهم مقاصدها وحكمها، وفي الاستفادة من هذه المناسك المقدسة في إصلاح حالنا. ومما يوضح بجلاء أن الحج (ومثله باقي العبادات والشعائر الكبرى في الإسلام) من أهم مقاصده تقوية أواصر الوحدة بين المسلمين، أن ثواب الحج والحساب عليه فردي كما هو معلوم: “مَنْ حَج لِلهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمهُ”، ولكن الحج يؤدى في شكل جماعي، فيجب أن يجتمع المسلمون من أقطار العالم، في وقت واحد، وعلى صعيد واحد، وبزي واحد، وعلى أعمال موحدة، القصد منها إسقاط الفوارق وتحقيق الاختلاط والتمازج للوصول إلى التقارب والتفاهم، وهذا أهم ما تجنيه الأمة من مؤتمر الحج الجامع، لو اتخذت الإجراءات اللازمة والتخطيط المطلوب والوسائل الضرورية لتحقيق هذا المقصد العظيم، وهذا واجب الأمة في مجموعها. ذلك أن نجاح الحج بالنسبة للفرد إنما هو في ظفره بالمغفرة حتى يرجع كما ولدته أمه، ولكن نجاح الحج بالنسبة للدول والمجتمعات هو في رجوعها إلى سابق عهدها موحدة كأمة.إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات