+ -

إن كثيرًا من نكبات المجتمعات إنما هي من أولئك الذين يفعلون أشياء يرونها في ظاهرها صلاحًا، وهي عَيْن الفساد؛ ولقد قال الله عز شأنه عن أناس: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}، ذلك أنهم لا يعرفون الصراط المستقيم، ولا يُفرقون بين الفساد والصلاح. في القرآن أمثلة للناس الذين يُفسِدون في الأرض ويحسبون أنهم يُحسِنون صُنْعًا، وعن هؤلاء قال الحق عز قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً الذِينَ ضَل سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}، وهذه الآية الكريمة وإن كانت في الكافرين بدلالة ما جاء بعدها حيث عرفنا الله بهم بقوله: {الذِينَ ضَل سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *  أُولَئِكَ الذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا}، إلا أن حكمها عام لم يسلم منه كثير من المسلمين المؤمنين، وما أسوأ أن يشبه المسلمُ الكافرَ في حاله أو أفعاله أو مآله!ومعنى قوله تعالى: {الذِينَ ضَل سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} كما ذكر المفسرون: الذين أتعبوا أنفسهم في عمل يبتغون به رِبحًا وفضلا؛ فنالوا به عَطَبًا وهلاكًا ولم يدركوا طلبًا، كالمشتري سلعة يرجو بها فضلا وربحًا؛ فخاب رجاؤه، وخسر بيعه، ووكس في الذي رجَا فضله. وفي تحديد المقصود بهم أقوال، أشهرها قولان: أحدهما: أنهم القسيسون والرهبان، والثاني: أنهم اليهود والنصارى، وهما متقاربان، ولكن قال شيخ المفسرين الإمام الطبري رحمه الله بعد ذكره الأقوال فيها: “والصواب من القول في ذلك عندنا، أن يُقال: إن الله عز وجل عنى بقوله: {هَلْ نُنَبئُكُمْ بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً} كل عامل عملاً يحسبه فيه مصيبًا، وأنه لله بفعله ذلك مطيع مُرْضٍ، وهو بفعله ذلك لله مُسخط، وعن طريق أهل الإيمان به جائر كالرهابنة والشمامسة وأمثالهم من أهل الاجتهاد في ضلالتهم، وهم مع ذلك من فعلهم واجتهادهم بالله كفرة، من أهل أي دين كانوا”. فالمعنى عام إذًا، وكما يشمل جميع من ضل سعيُهم في العقائد والأديان وهم يحسبون أنهم على الحق، يشمل كل من كانت هذه صفته في أي مجال وفي أي مستوى وفي أي عمل كان.إن القرآن العظيم يحكم على الذي يعمل العمل الباطل بأنه ليس خاسرًا فقط، بل من الأخسرين أعمالاً، ذلك أن مَن يفعل الشر وهو يراه شرا، ويفعل الباطل وهو يراه باطلا، ويقترف الجُرم وهو يراه جُرمًا، من هذه حاله قد يفيق من غفلته، ويرجع عن ضلاله، ويتوب إلى ربه، لكن الذي يقوم بالظلم، ويركب الضلال، ويغشى المعاصي، ويقترف المنكر، وهو يرى نفسه من المحسنين؛ فهذا لا يُرجى منه خير، ولا تنتظر منه توبة إلا نادرًا! ولا يستمع لنصح ناصح ولا لوعظ واعظ إلا أن يشاء الله! قال الحق جلت صفاته: {أَفَمَنْ زُينَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا}، وقال: {كَذلِكَ زُينَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.وهنا لا بد للمرء أن يقف مع نفسه وقفة للمراجعة اتعاظًا بهذه الآية واعتبارًا بهؤلاء القوم، فقد يكون في الطريق الخطأ، وقد يكون سعيه في ضلال، وقد يكون عمله في باطل، وهو لا يدري، أو يحسب أنه على خير، في طريق البر والحق! فكم من أناس أدركوا خطأهم في اختيار الطريق وتنكبهم سواء السبيل بعد فوات الأوان وانقضاء المهلة!إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات