+ -

فعلتها ورحلت عنا يا بشير بصورة مفاجئة شكّلت لنا فاجعة أليمة.. لست أدري هل أكتب نقطة نظام فيك أم بركة دموع؟ وأنت الذي قلت لي “أتمنى أن أرحل إلى دار الحق قبلك لتكتب عني مثلما كتبت عن المرحوم حمروش”، وكنت أتمنى أن أرحل عن الدنيا قبلك لتكتب فيّ بعض ما كتبته في أمك!هل من صدف القدر يا بشير أن تكون آخر صورة تلتقط لك أجلس فيها أنا أمامك، وكان اللقاء مع الزملاء رحايلية وقارة علي، وكانت الجلسة بمبادرة منك كالعادة، وتأسفت لغياب الزميل مصطفى هميسي عن اللقاء، وتشاء الصدف أيضا أن تكون آية الكرسي معلقة فوق رأسك في هذه الجلسة، كما نبهنا إليه أحد القراء في الفايسبوك.تأملت آخر صورة لك وتذكرت أول صورة التقينا فيها لأول مرة أواخر السبعينيات حين قلت لي “هل أنت سعد الذي كتب عن بلدتي الميلية؟”، وقلت “الميلية بلدة أغنياؤها يسكنون الأكواخ وفقراؤها يسكنون الزرائب!”.منذ شهر اتصل بي المرحوم على مائدة الغذاء ليقول لي إنه بحاجة إلى رأيي بخصوص كتابه الذي حرره قبل أن يطبعه، وخاصة الفصل المتعلق بقضية “الشروق”.. وقال لي “إنني فوضت أمري لله في هذه القضية، ولا أريد أن أكتب شيئا يخالف الحقيقة”. بعدها بيوم قابلته ثانية في نفس المكان، ووجدته منقبضا وحزينا، لأن أخاه خير الدين رئيس الدائرة في ولاية البرج قد أنهيت مهامه بطريقة تعسفية، وهو أحد أربعة خريجي بريطانيا ومن أكثر رؤساء الدوائر كفاءة.. وأحسست معه بالظلم الذي يطال كل شيء في هذه البلاد، والمؤسف أنه كان يشتكي من انسداد جهاز التظلم الوطني.. فلا يوجد من ترفع له شكواك إذا ظلمت!أعرف أن علاقة بشير بأخيه خير الدين حسّاسة، وقد يكون الحزن بسبب هذا الظلم هو وراء ما حدث لبشير!بشير كانت حياته الخاصة مضرب المثل.. فهو الصحفي القنوع الذي لا يعرف اللهفة على الماديات في هذه الحياة، فقد مات وهو يسكن في غرفتين في الطابق الخامس بحي العناصر 2، وحصل على هذه الشقة الصغيرة بحكاية هي بالفعل عبرة للصحفي النزيه والنظيف.. فقد غطى المرحوم في أواسط الثمانينات أشغال المجلس الشعبي الوطني لجريدة “الشعب” بكفاءة عالية، جلبت أنظار السلطات بمن فيهم رئيس المجلس المرحوم بيطاط أحد الستة الذين فجّروا ثورة أول نوفمبر، فاستدعاه إلى مكتبه ومنحه سكنا في العناصر مع مجموعة من الإطارات، منهم عبد القادر بن صالح وأويحيى ومدلسي.. وغادر الجميع هذا الحي إلا سي بشير!في المدة الأخيرة، أخذ بشير التقاعد الإداري وأقعده وزير الإعلام الحالي عن الكتابة حين أوقف الإشهار عن جريدة “الحقائق”. فتفرغ المرحوم للتجوال في مناطق الجزائر الجميلة شرقا وغربا وجنوبا.. وكأنه يودّع هذه الدنيا.. وكثيرا ما كان يرسل لي الصور عبر النت كي يغيّرني قائلا لي “إنني أتمتع بجميل مناظر الجزائر الجميلة ولذيذ مطاعمها..”، خاصة في زيارته لمنطقة القبائل الساحلية السياحية.بشير كان نموذجا في التوثيق والترتيب إلى درجة أننا نعود إليه في كثير من الوثائق.. وكأنه خريج قسم علم المكتبات والتوثيق وليس قسم العلوم السياسية.. أتذكر أنني أوكلت إليه مع الزميلين عباس محمد ومصطفى هميسي مهمة تصيح أوراق المسابقة التي أجريناها لاختيار صحفيين شباب سنة 1985.. فهو الذي صحّح أوراق المسابقة لعمر أورتيلان وعثمان سناجقي وعمر كحول وكمال جوزي وشريف رزقي وغيرهم ممن أنشئوا فيما بعد قلعة “الخبر” الحالية! وتشاء الأقدار أن ينقل بشير إلى مثواه الأخير في نفس اليوم الذي توزّع فيه جائزة “عمر أورتيلان” للصحافة!عندما عيّنت سنة 1991 مديرا عاما لـ “المساء”، وجدت بشير مديرا للتحرير بالصحيفة، بعد شهر من العمل معه قدم استقالته فقلت له “لماذا تفعل هذا؟ عندما جئت أنا مديرا”، فقال لي بدماثة خلقية لا أنساها “يشرفني العمل معك.. ولا أريد الهروب منك كما قد تتصور، بل إني ذاهب إلى إطلاق مشروع خاص هو الجزائر اليوم.. فالأمر يتعلق بمغامرة أخرى ولا يتعلق بهربة من الميدان..”.رحمك الله يا سي بشير وألهمنا وذويك جميل الصبر والسلوان.ومثلما كانت حياتك مثالا للزملاء، كانت وفاتك أيضا حالة يتمناها كل راحل عن الحياة.. فقد غادرتنا واقفا، مثلما عشت بيننا واقفا.

[email protected]

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات