+ -

ورد في الصّحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: دُلّني على عمل يعدل الجهاد لا أجده، قال: “هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر”، قال: ومن يستطيع ذلك؟ قال: أبو هريرة: إنّ فرس المجاهد ليستن في طوله - أي: يحرك قدميه في موضع ربطه - فيكتب له حسنات”.تجارة المرء في هذه الحياة إمّا تجارة دنيوية أو تجارة أخروية، فحريّ بالمسلم أن يقصد التجارة الأخروية مع الّذي يملك خزائن السّماوات والأرض، ومع مَن يعطي على الشّيء القليل الأجر الكثير المضاعف، فخزائنه ملأى لا تغيضها النّفقة ولا ينقصها شيء، وأعلى تجارة وأغلاها هي التجارة ببذل النّفس والمال لله عزّ وجلّ، وكلّ عبادة لله فهي تجارة: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}، فكلّ تجارة مع الله عزّ وجلّ لا يمكن أن تبور بحال من الأحوال، والدّنيا سوق، والنّاس كلّهم تجّار، يقول سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم: “الدّنيا سوق قام ثمّ انفض، ربح فيه مَن ربح، وخَسِر مَن خسر، كلّ النّاس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها”. والتّجارة مع الله وخاصة في شهر رمضان هي نوع خاص من التّجارات، تفترق عن سائر التّجارات في الدّنيا؛ لأنّها معاملة بين العبد الفقير الضّعيف المحتاج والربّ الغني القادر القاهر، فكلّ أحد من النّاس يريد أن يعامل غيره من أجل أن يربح منه، فهي معاملة بين فقير وفقير، وبين محتاج ومحتاج، فكلّ النّاس يريدك لنفسه، والله عزّ وجلّ يريدك لك؛ لأنّ الله تعالى غني عنك وعن طاعتك، فلو أنّ الخلق كلّهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم، ما زاد ذلك في ملك الله عزّ وجلّ شيئًا، ولو أنّهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم، ما نقص ذلك من ملك الله عزّ وجلّ شيئًا. ثمّ إنّ تجارة الدّنيا عرضة للمكسب والخسارة، فقد تكسب مرّة وتخسر مرّة، أو تكسب مرّات، وتخسر مرّات، أمّا التجارة مع الله عزّ وجلّ فلا تبور بحال من الأحوال، وليس هناك احتمال للخسارة بحال من الأحوال: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ}، يقول عليه الصّلاة والسّلام: “ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلاّ تعجّلوا ثلثي أجرهم في الدّنيا، فإن لم يصيبوا الغنيمة تمّ لهم أجرهم”، ومن الفروق بين تجارات الدّنيا والتّجارة مع الله أنّ تجارة الدّنيا الأرباح فيها محدودة، والسّلع قد تربح فيها نسبًا معينة، فالدرهم يربح درهمًا أو درهمين، ولكن تجارة الآخرة الرّبح فيها يصل إلى سبعمائة ضعف: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَالله يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}. أضف إلى ذلك أنّ تجارة الدّنيا قد يدخلها الغشّ، وقد تكون هناك سلعة معيّبة ويدلسها صاحبها ويخفي ما بها من عيب ويروجها فتروّج، أمّا التجارة مع الله تعالى فلا يمكن أن يدخلها الغش؛ لأنّ الله عزّ وجلّ بصير خبير عليم.وأكثر النّاس يعرف كيف يتاجر في الدّنيا، ولكن القليل منهم مَن يعرف كيف يتاجر مع الله، ومن هنا فلا بدّ للتجارة مع الله من فقه، ومن ذلك استصحاب العبد الإخلاص في كلّ قول وعمل: {أَلاَ للهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}، وعند النسائي من حديث أبي أمامة: “إنّ الله لا يقبل من العمل إلاّ ما كان له خالصًا، وابتُغي به وجهه”، ومن فقه التجارة مع الله أن يتاجر العبد بالمباحات مع ربّه، لأنّ العمل المباح لو توافرت فيه نية صالحة فإنّه يصير من الطّاعات والقُربات، فلو نام العبد بنية صالحة من أجل أن يقوم من آخر اللّيل، أو يقوم لصلاة الفجر وأذكار الصّباح فإنّه يؤجّر، يقول معاذ رضي الله عنه: إنّي لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي.ومن فقه التجارة مع الله أن يتأكّد العبد أنّ أعماله وأقواله مطابقة لسُنّة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”، فكلّ عمل لا يندرج وفق أحكام الشّريعة فهو مردود على صاحبه، ومن فقه التجارة مع الله تعالى أن يجتهد العبد في أن يكون العمل سرًّا بينه وبين ربّه: “إلاّ الصّيام فإنه لي وأنا أجزي به”، فإن ذاك أدعى لحفظ العمل وأدعى لقبوله، ومن فقه التجارة مع الله المداومة على العمل: “أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قلّ”، لأن العمل الدّائم وإن كان قليلا، فإنّه يصير كثيرًا بالمداومة عليه، بل يربو، ويكون أكثر من الكثير المنقطع، والله تعالى يحب أن يديم فضله وأن يوالي إحسانه، وهو وليّ التّوفيق.*إمام مسجد عمر بن الخطّاب - بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات