كمال الإيمان بكمال الاستسلام لأوامر الوحي

+ -

معنى الإسلام الاستسلام لله تعالى والانقياد له دون اعتراض، فلا أحد أصوب طريقًا ولا أهدى سبيلاً ممّن أسلم وجهه لله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}.فالمسلم حتّى يحظى بمنازل السّالكين ومنارات المهتدين لا بدّ أن يجمع في دينه بين كمال التّسليم والانقياد، والتزام الإحسان في العمل، فشأن المؤمن والمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا ألاّ يكون لهما الخِيرةُ من أمرهم، ولا يمكن لهما الحيدةُ عمَّا أمر الله به ورسوله، ومن المعلوم أنّ كمال الإيمان لا يتحقّق في العبد إلاّ إذا أعلن كمال الاستسلام لما جاء به الوحي، قال سبحانه: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، وهذا لا يكفي، {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وعند ذلك يتم الإيمان، ويكون العبد مُسلمًا لله حقيقة، وهذا بخلاف أهل النّفاق، فإنّ حالهم مع أوامر الله ووحي السّماء الصدود والنكوص، وقد نطق القرآن مجلِّيًا هذه الحقيقة في قوله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ الله وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا}.لقد ضرب الرّعيل الأوّل من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أروع الأمثلة في الاستسلام للوحي، والتّسليم لأوامر الشّريعة الغرّاء، فقد كانوا يتقبّلونها بكمال إذعان وانقياد، دون اعتراض أو تلكُّؤ أو نكوص، فمن ذلك اجتنابهم لشرب الخمر عندما نزل الوحي بذلك، على الرّغم من أنّها كانت متفشية عند العرب ومنتشرة، لكن لمّا نزل قول الله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}، قال الفاروق رضي الله عنه: ”انتهينا انتهينا”، ولمّا نادى المنادي في المدينة: ألاَ إنّ الخمر قد حُرِّمَت، سارع النّاس إلى دنان الخمر في بيوتهم فكسّروها، وأراقوا ما بقي منها حتّى جرت في سكك المدينة وطرقاتها، كلّ ذلك مسارعة منهم في الإذعان للوحي، وترى مظهر الإذعان لرسالة السّماء جليًا عندهم في مسألة الحجاب، وذلك لما نزلت آية الحجاب تخاطب المؤمنات: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}، فما كان من النّساء إلاّ أن شققن مروطهن فاختمرن بها، ولمّا أُخبِر بعض أصحاب رسول الله وهم يصلّون تجاه بيت المقدس بتحوُّل القِبلة نحو الكعبة، استداروا إلى الكعبة وهم في الصّلاة سرعة في الاستجابة والامتثال. ويبلغ بهم الانقياد مبلغه، فيرى الهادي الأعظم خاتَم ذهب في يد أحدهم فيقول: ”يَعمَدُ أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده”، ففهم ذلك الصّحابي الرّسالة، فخلع خاتمه وألقاه، فقيل له: خُذ خاتمك فبِعْهُ وانتفع به، فقال: لا والله لا آخذه أبدًا وقد طرحه رسول الله، وفي بعض الأحيان تكون قضية ما عادة غلبت على بعضهم، ولكن ما إن ينزل الأمر والنّهيّ إلاّ ويبادرون بالالتزام، فهذا جابر بن سُليم جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: اعهد إليّ، فقال له: ”لا تسبن أحدًا”، قال: فما سبّبت بعده حُرًّا ولا عبدًا، ولا بعيرًا ولا شاة.في بعض الأحيان تتصادم حظوظ النّفس مع أوامر الله ورسوله، فلا يطلقوا العنان لحظوظهم، بل يتغلّبون على كلّ ذلك، سعيًا منهم في إرضاء الله ورسوله، فهذا معقل بن يسار رضي الله عنه زوَّج أخته لرجل، لكن هذا الرّجل طلّقها، ثمّ ندم وجاء يخطبها مرّة أخرى، فقال معقل: زوّجتُك وأكرمتك ثمّ طلّقت أختي، لا والله لا أرجعها إليك أبدًا، فلمّا نزل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}، قال معقل: سمعًا لربّي وطاعة.وهكذا لم يكن الاقتناع العقلي شرطًا عندهم للتّنفيذ والإذعان، بل ينفّذ الواحد سواء اقتنع أو لم يقتنع، فهِم العلّة أو لم يفهم، يقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: لو كان الدِّين بالرّأي لكان أسفل الخُفّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح على ظاهر خُفّيْه.ولم يقتصر الامتثال والإذعان على أصحاب رسول الله، بل إنّ مَن جاءوا بعدهم ساروا سيرتهم، ولم يكن عندهم تردّد في التّنفيذ حتّى العامي منهم، ورد في السِّيَر أنّ أبا إسحاق الحبال قال: كنّا يومًا نقرأ على شيخ فقرأنا حديث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ”لا يدخل الجنّة قتّات”، وكان في المجلس رجل عامي يبيع القت -علف الدّواب-، فقام يبكي وقال: أتوب إلى الله من بيع القت، فقال له الشّيخ: ليس هذا القصد، لكن القتات النمام الّذي ينقل الحديث من شخص إلى آخر، فسكن الرّجل وطابت نفسه، تُرى إذا كان هذا الحال عند العامي، فما بالك بالأخيار منهم والعلماء والعُبَّاد والزُّهاد؟ ولذلك لا عجب أن يكون هؤلاء هم خير القرون.ذكر الحُمَيْدي أنّه كان عند الشّافعي، قال: فأتاه رجلٌ فسأله عن مسألة، فقال الشّافعي: قضى فيها رسول الله كذا وكذا، فقال رجل للشّافعي: وما تقول أنتَ؟ فقال الشّافعي: سبحان الله! أقول لك قضى فيها رسول الله كذا، وأنتَ تقول لي: ما رأيك! {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات