أخطار التّطبيع مع الفساد وتقبّل المفسدين

+ -

لا ريب أنّ أخطر ما ابتليت به المجتمعات المعاصرة هو الفساد بكلّ صوره وأنواعه: الفساد الاقتصاديّ والفساد المالي أساسًا، والفساد الاجتماعيّ والفساد الأخلاقيّ رأسًا، والفساد السياسيّ أُسًا. والّذي يُحزن القلب ويُدمع العين هو أنّ معدّلات الفساد الأعلى في العالممن نصيب البلاد الإسلامية، ومنها الجزائر!!، وهذا عجب من العجب.

كيف للمسلمين الّذين جاء دينهم حربًا لا هوادة فيها على الفساد والمفسدين أن ينخرطوا في الفساد بهذا الشّكل المريع؟!، وهم يقرؤون قول ربّهم جلّ في علاه: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} البقرة:205، {وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} المائدة:64، {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} الأعراف:85، {إِنَّ اللهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} يونس:81، {وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} الشّعراء:151-152، {وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} القصص:77. والآيات عامة تشمل كلّ فساد وفاسد مهما كان اختصاصه ومهما كان قدر وخطر فساده، ولكن أين القرآن من واقعنا؟!، وهو حاضر أشبه بغائب!.ومع خطورة الفساد، وآثاره المدمّرة على الإنسان والعمران، والعباد والبلاد، والأحياء والجماد: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}، إلاّ أنّ الأخطر منه -فيما أحسب- هو التّطبيع مع الفساد وتقبّل المفسدين، بل تبجيلهم كما هو مشاهد معيش!؛ هذا الأخطر لأنّه يتعلّق بالجانب النّفسي الشّعوريّ، وهو أكثر تأثيرًا في حياة النّاس وقراراتهم كما هو معلوم. وهذا الجانب النّفسيّ الشّعوريّ هو الّذي يصنع البيئة الملائمة لازدهار الفساد وشيوعه، ويمكّن للمفسدين ويقوّيّ نفوذهم.وقد نبّهنا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لهذه الظاهرة الخطيرة، الّتي تفسّر شيوع الفساد شيئًا فشيئًا حتّى يصير بليّة عامّة ومصيبة طامّة وكارثة غامّة، فعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ أوّل ما دخل النّقص على بني إسرائيل كان الرّجل يلقى الرّجل، فيقول: يا هذا اتّقِ الله، ودعْ ما تصنع، فإنّه لا يحلّ لك. ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده؛ فلمّا فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثمّ قال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ..} الآيات، ثمّ قال: “كلاّ، والله؛ لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف، ولَتَنْهَوُنَّ عن المنكر، ولَتَأْخُذُنَّ على يدي الظّالم، ولَتَأْطُرُنَّهُ على الحقّ أطرًا، ولتقصرنه على الحقّ قصرًا» رواه أبو داود وغيره. وفي رواية التّرمذيّ: عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “لمّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي فنهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم على بعض ولعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}»، قال: فجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكان مُتكئًا فقال: “لا، والّذي نفسي بيده حتّى تأطروهم على الحقّ أطرًا». فالحديثان الشّريفان يقرّران ظاهرة اجتماعيّة يمكن أن نسميَها: القابلية للفساد، حيث يبدأ المجتمع وأفراده بالتّطبيع مع الفاسد وتقبّل المفسدين شيئًا فشيئًا، حتّى يصير الفساد أمرًا طبيعيّا عندهم، والمفسد شخصًا عاديّا إن لم يكن شخصًا شاطرًا (قافزًا) واتته فرصة فلم يضيّعها!، وربّما وجد من يغبطه على ذلك ويتمنّى حاله وفِعاله!، وقد يحسده البعض (فيشتمه ويسبّه) لا بُغضًا في فساده ولكن حسدًا له إذ لم يتيسّر للشّاتم أن يفعل مثله، ويفسد مثله!. وليست هذه مبالغة بل هذا للأسف واقع عايناه وعايشناه.وقد يعجب البعض حين أقول إنّ هذا التّمنّي النّفسيّ للفساد، وهذه المنافسة الوجدانية للمفسدين، هي فساد أيضًا، وإثمٌ أيضًا، وتشجيع ودعم للفساد والمفسدين أيضًا، ولكن ليس هذا من عندي بل هو حكم إمام المصلحين صلّى الله عليه وسلّم، فعن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “مثل هذه الأمّة مثل أربعة نفر: رجل آتاه الله مالًا وعلمًا، فهو يعمل به في ماله ينفقه في حقّه، ورجل آتاه الله علمًا ولم يؤته مالاً، فهو يقول: لو كان لي مثل مال هذا، عملتُ فيه مثل الّذي يعمل»، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “فهما في الأجر سواء»، “ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمًا، فهو يخبط فيه ينفقه في غير حقّه، ورجل لم يؤته الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو كان لي مال مثل هذا، عملتُ فيه مثل الّذي يعمل»، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: “فهما في الوِزر سواء» رواه أحمد وابن ماجه بسند حسن. وقد تكون هذه الظّاهرة هي ما يفسّر وجود أشخاص يكونون في صفّ دعاة التّغيير والإصلاح، وربّما يكونون متطرّفين في نقد الفساد والمفسدين، ولكنّهم ما إن يتولّوّا منصبًا عامًا أو مسؤولية في تنظيم أو دولة حتّى يتحوّلوا إلى مبدعين في الفساد والإفساد؛ لذا فمن الواجب في حرب الفساد وأهله أن نبدأ من هنا من تطهير النّفوس من أيّ استكانة إلى الفساد وأهله: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}، ومن إقامة الحواجز النّفسية الّتي ترهّب الأجيال وتنفرّهم من الفساد والمفسدين وحالهم المشين: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات