+ -

يقول الله جلّ شأنه: {لَيْسَ البِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ والمَغْرِبِ وَلكِنْ البِرُّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالْنَّبِيّئينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبى وَالْيَتامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالْسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}، وهذه الآية العظيمة نزلت بعد اللّغط الّذي أثاره اليهود في المدينة المنوّرة مع تحويل القبلة من بيت المقدس إلى البيت الحرام! وكأنّهم يعظمّون حرمات الله، وكأنّهم يعظمّون شأن القبلة!. وما فعلوا ذلك إلّا لإثارة البلبلة والطّعن في الدّين الحقّ! فهم أوّل مَن ضيّع حرمة القبلة، وهم أكثر النّاس جرأة على حرمات الله!. وما كثرة جدالهم في شأن القبلة إلاّ من العناء الّذي ليس تحته إلّا الشّقاق والخلاف.وقد اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية، فقال بعضهم: المسلمون، وعليه يكون معناها: ليس البرّ كلّه في الصّلاة، ولكن البِرّ ما في هذه الآية. وقال بعضهم: أهل الكتاب، وعليه يكون معناها: ليس البرّ صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النّصارى إلى المشرق، ولكن البرّ ما في هذه الآية.ومهما يكن، فقد ردّ الله جلّ جلاله في هذه الآية جهالاتهم، مبيّناً أنّ البِرّ ليس محصوراً في شأن القبلة وما يماثلها من الشّكليات والظواهر، ولكِن البِرّ الّذي ينبغي أن يُعتنى بشأنه هو الإيمان بالله، وما يجب له من الكمالات، وما ينتج عنه من التزامات، وما يزيّنه من أخلاق وفضائل، فذكر سبحانه في هذه الآية قواعد الإيمان وبعض قواعدِ الإسلام وبعض أمّهات الأخلاق؛ ردّا عليهم وتصحيحاً لتصوّراتهم الخاطئة.فكانت هذه الآية العظيمة بهذا البيان الوافي من أوفى الآيات في بيان صفات المتّقين، قال الإمام ابن عَجِيبَة رحمه الله: ”اشتملت هذه الآية على كمالات الإنسان بأسرها، لاشتمالها على ما يزِيّن البواطنَ من الاعتقادات وما يزيّن الظواهر من المعاملات، وما يُزَكِّي النّفوس من الرّذائل ويُحَلِّيها بالمحاسن والكمالات. ولذلك، وُصف المتّصف بها بالصّدق والتّقى، اللّذين هما أساسُ الطّريقة ومبنَى أسرار التّحقيق”. وهكذا تجمع آية واحدة بين أصول الاعتقاد، وتكاليف النّفس والمال، وتجعلها كلاً لا يتجزّأ، ووحدة لا تنفصم، وتضع على هذا كلّه عنواناً واحداً هو «البرّ»”.

إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات