+ -

 “السلام في دارفور اكتمل”، كلمة كبيرة قالها مساعد الرئيس السوداني البروفيسور ابراهيم غندور (القائم بأعمال رئيس الحكومة)، وهذا ما دفعنا إلى التساؤل عن حقيقة ما إذا كان السلام قد عمّ فعلا كامل ولايات إقليم دارفور، الذي كان قبل الحرب العالمية الأولى سلطنة قائمة بذاتها، تتكفل لوحدها بكسوة الكعبة المشرفة دون سائر الدول الإسلامية، وفيها قرى بأكملها يحفظ أهلها القرآن أبا عن جد. الشيء الذي يميز دارفور عن بقية أقاليم “بلاد النيلين” أن الإسلام دخل إلى معظم ولايات السودان من الشمال عن طريق مصر، إلا أن إقليم دارفور الذي تقارب مساحته مساحة فرنسا (أزيد من 490 ألف كم مربع) عرف الإسلام من الغرب، وبالضبط من دولة اسمها “الجزائر”.“السيسي”.. من متمرد إلى شريك في الحكم أكثر الشخصيات الجدلية التي التقيناها في الخرطوم هو زعيم إحدى الجماعات المتمردة في دارفور، التي حاربت الحكومة لقرابة عقد من الزمان، لكنه هذه المرة بلا سلاح ولا زي عسكري، بل التقيناه في مكتبه بالخرطوم ليس بصفته زعيما للتمرد بل كرئيس للسلطة الإقليمية لدارفور التابعة لرئاسة الجمهورية السودانية، بالإضافة إلى كونه رئيسا لـ«حزب التحرير والعدالة القومي” (حركة التحرير والعدالة سابقا والتي كانت تضم 19 جماعة مسلحة)، الذي شارك في الانتخابات الأخيرة واستطاع مناطحة الحزب الحاكم في دارفور، لكن في صناديق الاقتراع بدل ساحات المعارك. وأوضح لنا التيجاني السيسي، رئيس السلطة الإقليمية لدارفور، خلال لقاء مع مجموعة من الصحفيين الدوليين بمكتبه بالخرطوم، أن وضعهم السلاح وانخراطهم في العملية السياسية (أصبحوا مشاركين في الحكومة) جاء نتيجة لاتفاقية السلام في الدوحة في 2011 (العام نفسه الذي تم فيه الاستفتاء على انفصال الجنوب)، مشيرا إلى أنه طبقا لهذه الاتفاقية فسيجرى استفتاء خاص بدارفور (حول ما إذا كان سكان دارفور يريدون أن يصبح إقليما واحدا أو الإبقاء على حالته مقسما إلى خمس ولايات)، مضيفا أنه إذا أقر (سكان دارفور) الإقليم، فستتحول “السلطة الإقليمية لدارفور” إلى “مجلس سلطة دارفور” الذي سيشكل لجنة لوضع دستور إقليم دارفور، أما إذا أصر أهل دارفور على البقاء على ما هم عليه (مقسمون إلى خمس ولايات) فلن تكون هناك سلطة إقليمية لدارفور.دائرة التمرد في دارفور تقلصت من 20 إلى 1 في المائة وسألت السيسي حينها عن نسبة المناطق التي لا زال يسيطر عليها المتمردون، خاصة أنني خلال لقائي بشقيق الرئيس السوداني، الجنرال عبد اللّه حسن البشير، في 2010، أخبرني أن نسبة التمرد في دارفور لا تتجاوز 20 بالمائة، وهي نسبة أذهلتني حينها لأن ذلك يعني أن نحو 100 ألف كم مربع على الأقل خارجة عن سلطة الدولة، ما يعكس قوة الحركات المتمردة حينها، وهو ما أكده لي أحد الجنود السودانيين الجرحى الذي اشتبك عدة مرات مع المتمردين، وكنت قد التقيته في الطائرة المتوجهة إلى نيالا عاصمة جنوب دارفور في 2010، حيث قال لي حينها بأسف “الجماعات المتمردة في دارفور كثيرة”. غير أن السيسي التيجاني، الذي كان في 2010 أحد زعماء هذه الجماعات المتمردة، أكد لي أنه في 2015 لم يعد التمرد في دارفور يسيطر سوى على 1 بالمائة من مساحة الإقليم (نحو 5 آلاف كم مربع)، وأضاف أن الوضع الأمني لم يكن جيدا في 2011، أما اليوم فلم يبق من المتمردين سوى “حركة تحرير السودان” المقسمة بين جناح “عبد الواحد” وجناح “ميناوي”، واللذين لم يبق لهما سوى بعض الجيوب في أعالي جبل مرة (يقع في وسط دارفور وله امتدادات في شرق وجنوب دارفور). وكشف السيسي أن لديه “معلومات بأن حركات مسلحة حاولت تعطيل الانتخابات، لكنهم لم يفعلوا شيئا”، وأن عبد الواحد زعيم جناح في حركة تحرير السودان فتح مكتبا في “إسرائيل”، ولديه بعض المقاتلين الذين يحاولون استهداف الجنود، مشددا على أن الحركات المسلحة في دارفور لم يعد لها أي نشاط يكاد يذكر في دارفور، وأشار إلى أن تمركزها هو في المناطق الحدودية مع دولة جنوب السودان، في ولايتي جنوب كردوفان والنيل الأزرق خارج إقليم دارفور.سقوط القذافي أدى إلى انهيار التمرد عندما كنت في العاصمة الليبية طرابلس أخبرني أحد الضباط، رفض الكشف عن اسمه، أن الزعيم الليبي المقتول معمر الليبي كان يقول لهم “سلحوا كل من يرفع السلاح”، مشيرا إلى أن القذافي عمل على تسليح وتمويل كل الجماعات الثورية والمتمردة، سواء تلك التي في إفريقيا أو أوروبا أو حتى في مناطق بعيدة مثل أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. وفي الخرطوم تحدث لي أكثر من مسؤول سوداني على أن نظام القذافي كان يسبب لهم قلقا كبيرا بسبب دعمه للحركات المتمردة في دارفور، خاصة أن ليبيا لديها حدود مع شمال إقليم دارفور، لذلك قامت الخرطوم بدعم الثوار في ليبيا عن طريق تزويدهم بأسلحة وتقنيين عسكريين، وذلك في منطقة الكفرة في الجنوب الشرقي لليبيا، وهو ما أكده لي شقيق الرئيس السوداني، عبد اللّه البشير، في حوار سابق مع “الخبر” في 2011. وبسقوط نظام القذافي، بعد ثورة 17 فيفري 2011، فقدت حركات التمرد في دارفور أكبر داعم لها بالمال والسلاح، وبعدها جاء توقيع حركة تحرير السودان، كبرى الحركات المتمردة لاتفاقية السلام في الدوحة في ماي 2011، وتلقى التمرد في الإقليم ضربة قوية عندما قتل زعيم حركة “العدل والمساواة”، إبراهيم خليل، على يد الجيش السوداني في نهاية ديسمبر 2011، عندما كان متوجها من دارفور (غربا) إلى جنوب كردوفان بالقرب من الحدود مع دولة جنوب السودان التي استقلت رسميا في 11 جويلية 2011، بهدف الاقتراب من حليف استراتيجي عقب سقوط نظام القذافي، لكن مقتله أدى إلى ضعف حركة “العدل والمساواة” التي وصلت لأوج قوتها في الهجوم على العاصمة الخرطوم قاطعة ألف كيلومتر من دارفور. وما زاد في تفتت وانهيار التمرد في دارفور هو انخراط حركات التمرد في صراعات دول أجنبية، حيث يشارك متمردون دارفوريون في الحرب الأهلية في دولة جنوب السودان، فبعضهم يدعم رئيس الجمهورية سلفاكير ميارديت من قبيلة الدينكا، والبعض الآخر يدعم نائبه السابق رياك مشار من قبيلة النوير، كما تشارك حركات متمردة في الحرب الأهلية في ليبيا إلى جانب قوات خليفة حفتر الموالي لبرلمان طبرق. وتخشى الخرطوم من أن يتسلل المتمردون الدارفوريون من ليبيا ودولة جنوب السودان مدججين بالأسلحة، ما قد يهدد الأمن والسلم الهش في الإقليم. وقال التيجاني السيسي في هذا السياق “من الممكن أن يتسللوا إلى دارفور، ونحن جاهزون لهم”. وبعد أيام من هذا التصريح تسللت قوات كبيرة من حركة “العدل والمساواة” تضم 200 سيارة رباعية الدفع من دولة جنوب السودان إلى ولاية جنوب ولاية دارفور، متوجهة إلى ليبيا حسب مصادر ليبية، لكنها وقعت في كمين للجيش السوداني وقوات التدخل السريع (قوات شبه نظامية يسميها خصوم الخرطوم “الجنجويد”)، وسقط منها عشرات القتلى وخلفت وراءها أزيد من 100 سيارة مسلحة.القوات الأممية والإفريقية تتأهب للانسحاب قبل مجيئي للسودان كنت أتصور أن قوات “اليوناميد” (القوات المشتركة للاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور) قد انسحبت أو في طريقها للانسحاب من هذا الإقليم، الذي عرف مأساة أكبر مما كنت أتصورها قبل زيارتي له أول مرة في 2010، وذلك عقب دعوة السلطات السودانية لهذه القوات للخروج من السودان، لكن بعد لقائنا بمساعد الرئيس السوداني، البروفيسور غندور، بمقر الحزب الحاكم في الخرطوم، عاد وأكد لنا أنه “يتم التباحث في كيفية مغادرة قوات “اليوناميد” لدارفور”، بمعنى أن خروجها من دارفور سيستغرق وقتا قد يطول لأشهر أو سنوات، عكس ما حدث مع المنظمات الإنسانية في دارفور التي طردت من الإقليم في وقت أقصر لاتهام الخرطوم لها بالتورط في قضايا لا تتفق مع مهامها في الإقليم. وفي 17 أفريل توجهت رفقة الصحفي التركي أنصار فرات والصحفي الأردني شاكر الجوهري إلى مدينة الفاشر، العاصمة التاريخية لسلطنة دارفور، والتي تبعد عن الخرطوم بنحو ألف كيلومتر، أو 15 ساعة بالسيارة، وأقل من ساعتين بالطائرة. وبمجرد وصولنا إلى مطار الفاشر ونزولنا من الطائرة حتى استوقفنا شباب بلباس مدني وطلبوا منا استظهار رخصة الدخول إلى دارفور، قبل أن يتدخل مرافقنا ويسوي الأمر معهم، فالإجراءات الأمنية في دارفور مازالت مشددة، ولا يمكن للأجانب دخولها إلا بترخيص من جهات سيادية. وأول ما يلفت الانتباه هو العدد الكبير للطائرات العمودية والطائرات الصغيرة التابعة للأمم المتحدة، وهو المشهد نفسه الذي لاحظته في 2010، وعندما سألت عن عدد القوات الإفريقية والأممية في دارفور أجابني أحد المرافقين من سكان الفاشر أن عددهم “تراجع من 20 ألف إلى 15 ألف جندي وضابط من اليوناميد”. وفي اليوم الثاني لزيارتنا للفاشر استوقفنا حادث مرور وقع بين سيارة تابعة للقوات الإفريقية والأممية “يوناميد” وسيارة أحد المواطنين، حيث تجمع حول الحادث بعض الشباب وكانوا غاضبين من “اليوناميد”، في حين أحاطت مدرعات “اليوناميد” بالمكان. وسألت أحد السودانيين عن السبب الذي يدفع الأهالي إلى النظر إلى القوات الأممية بنوع من “العداء” بالرغم من دورهم في إحلال السلام في الإقليم، فأجاب أن الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي ينفقون سنويا 1.3 مليار دولار على هذه القوات، وأن هذه الأموال كان الأولى أن تصرف على النازحين وعلى تنمية الإقليم بدل أن تنفق على جنود لا يفعلون شيئا، حسب رأيهم. وهذا ما يفسر قيام نحو 40 مسلحا ممتطين الخيال والجمال بالهجوم على قوات “اليوناميد” في مدينة الكاس بولاية جنوب دارفور، ما أدى إلى مقتل 7 أشخاص منهم وجرح 4 من “اليوناميد” في تبادل لإطلاق النار وقع بعد الانتخابات بأيام، ناهيك عن اختطاف طيارين روسيين اثنين في مدينة زالنجي عاصمة ولاية وسط دارفور.«الفاشر” ودّعت زمن الحرب منذ 2006 بالرغم من أننا خلال تجولنا في شوارع وأسواق دارفور لم نلحظ وقوع اشتباكات ولم نسمع إطلاق نار، ولا مواجهات عرقية بين القبائل العربية والإفريقية أو بين الرعاة والفلاحين، أو حتى بين قبائل البقارة (رعاة البقر) والأبالة (رعاة الإبل)، مثلما حدث يوم وصولنا إلى نيالا في جنوب دارفور في أفريل 2010، إلا أن المظاهر المسلحة كانت واضحة منذ اليوم الأول الذي نزلنا فيه إلى شوارع الفاشر، فهناك دوريات للشرطة وللجيش وحتى لقوات شبه نظامية كانت تتجول بسيارات رباعية الدفع في أرجاء المدينة. وفي سوق الفاشر استوقفنا للمرة الثانية رجال أمن بلباس مدني للسؤال عن هوياتنا، وتدخل مرافقون لتوضيح الأمر. كما لفت انتباهنا أن أحد مرافقينا السودانيين كان يحمل معه سلاح كلاشينكوف، ما أوحى لنا وكأنهم يخشون على حياتنا من أي تهديد، لكن في اليوم الثاني لم يحمل مرافقنا الذي التقيناه في دارفور سلاحه. لم يكن في الفاشر أي شيء يشعرك بالقلق، الناس هنا بسطاء وطيبون، ومسالمون للغاية، ولم ينزعجوا من تصويرنا لهم في سوق المدينة، باستثناء شخص احتج عليّ، فصاح عليه شباب من ولاية الجزيرة قائلين له “دعه يصور”، وفرحوا كثيرا عندما علموا أنني من الجزائر، وقالوا لي “من بلد المليون شهيد”، فقلت لهم “بل من بلد المليون ونصف مليون شهيد”. وأخبرني أحد سكان دارفور أن آخر هجوم كبير للمتمردين على مدينة الفاشر كان في 2003، غير أن مدير مطعم تركي في المدينة أكد لي أن المتمردين هاجموا الفاشر في 2006، حيث جاء إلى المدينة بعد هذا الهجوم بيوم فوجد الرصاص الفارغ يملأ أرجاء المدينة، ما دل على أن المدينة شهدت قتالا عنيفا حينها، لكنه أشار إلى أن الفاشر منذ ذلك الوقت وهي تنعم بالأمان، بدليل أنه نقل استثماره الصغير من الخرطوم وزار عدة مدن سودانية فلم يجد أحسن من الاستثمار في الفاشر، وأعرب لنا عن ارتياحه للمردود المالي لهذا المشروع بهذه المدينة التي تخشاها رؤوس الأموال، مشيرا إلى أن الكثير من زبائنه هم من الأجانب الذين يعملون في منظمات دولية ومن أفراد “اليوناميد”، بالإضافة إلى سودانيين من بينهم مسؤولون كبار في الدولة. وذكّرني هذا المستثمر التركي الصغير بشباب أتراك ومعهم سوري التقيتهم بفندق بائس في نيالا في 2010، وأخبرني السوري أنه مدير لفندق يتم إنجازه في دارفور، وأنه ركب خمس طائرات من دبي حتى وصل إلى نيالا، وسألته مستغربا “كيف تترك دبي وتأتي إلى الموت برجليك”، فقال لي “الموت في الوطن العربي متشابه”، وأضاف “كلما كان الخطر أكبر كلما كان الربح أعلى”، مشيرا إلى أن “الفندق” الذي نزلنا فيه أسوأ من أن ينام فيه المرء ولو بدولار واحد، ومع ذلك فهو الأفخم والأعلى سعرا وليلة واحدة تكلفك 80 دولارا، بالمعايير الدارفورية طبعا. وفي الفاشر تفاجأت من حيث العمران الموجود مقارنة بمدينة نيالا التي زرتها في 2010، فالفندق الذي نزلنا فيه أفضل بعشرات المرات من “المرقد” الذي قضينا فيه ليلتنا في نيالا، سواء من حيث الخدمات والنظافة والتهوية، كما أنه يوفر خدمة الأنترنت في بهو الاستقبال، وبالمعايير الدارفورية هو الأفضل، وقيل لي إنه تم إنجازه حديثا وافتتح في العام 2011. وأخبرني الزميل الأردني شاكر الجوهري، الذي زار الفاشر في 2009، أنها “تغيرت كثيرا من ناحية العمران”، حيث وجدنا معظم طرقها الرئيسية معبدة، وإن كانت أرصفتها غير مهيئة، وتغزوها الرمال، ولكن توجد بها بنايات إسمنتية حديثة ومتناثرة، خاصة أن بيوت الطوب والقش هي الأكثر انتشارا في هذا الإقليم الذي يعاني من “جوع” شديد في التنمية. وعندما بحثت في الأنترنت وجدت أن الحكومة المركزية اتفقت مع السلطة الإقليمية لدارفور على تخصيص نحو 90 مليون جنيه سوداني لتنمية الإقليم، كما قدمت دولة قطر منحة بـ88 مليون دولار للمساهمة في تنمية دارفور، وربما تكون دول أخرى قد منحت مساعدات أخرى، مثل تركيا التي شيدت مستشفى بالإقليم.الطوب بدل القش والتجارة تعوّض الفلاحة خلال تجولنا في بعض أرجاء مدينة الفاشر، لفت انتباهنا عدد من أفران الطوب التقليدية والمنتشرة في الهواء الطلق، توحي إليك وكأن هناك نهضة عمرانية بهذا المكان، إلى درجة أن أحد الأتراك قدم إلى الفاشر وفتح “فُرنا” لإنتاج الطوب المستخدم في بناء المنازل.  وأهمية انتشار أفران الطوب تكمن في أن النازحين الذين يقدر عددهم بالملايين في ولايات دارفور الخمس، والذين قدموا من مختلف القرى التي طالتها نيران القتال بدأوا يستقرون في المدن، ويتعودون على حياة المدينة بعدما ألفوا في وقت سابق حياة البداوة والبساطة، والآن بدأوا يستبدلون أكواخ القش والقصب في معسكرات النازحين ببيوت الطوب. فالنازحون الذين اشتغل معظمهم في الزراعة والرعي أصبحوا الآن يمتهنون التجارة؛ فبالموازاة مع سوق المدينة أصبح للنازحين سوقهم الخاصة والمتفرعة إلى عدة أزقة مغطاة بصفائح الزنك وبعض قطع القماش والبلاستيك. وقلت لزميلي التركي من وكالة الأناضول مازحا “يشبه السوق المسقوف في اسطنبول”. وما حدث في دارفور سبق أن حدث في الجزائر خلال العشرية الحمراء، عندما نزحت آلاف العائلات الجزائرية من المداشر والدواوير خوفا من المجازر الجماعية، وتركت أراضيها وباعت مواشيها واستقرت في المدن وامتهنت التجارة بدل الفلاحة.عودة بطيئة للنازحينوبالرغم من انحسار مساحة التمرد بشكل كبير مقارنة بسنة 2010 إلا أن قلة قليلة من النازحين عادوا إلى قراهم. وسألت أحد هؤلاء النازحين، ويدعى آدم بشير صالح من قرية “كورما” التي تبعد 65 كم غرب الفاشر، عن سبب عدم رغبتهم في العودة إلى قراهم التي نزحوا منها، فأكد لي أن هذه القرى صارت مهجورة، كما أنهم حتى ولو عادوا بشكل جماعي فإن المتمردين الذين تحولوا إلى قطاع طرق سيهجمون عليهم ثانية لأنهم بلا حماية. لكن أحد السودانيين الذين رافقونا إلى معسكر أبو الشوك للنازحين ذكره “بالعودة الموسمية” للنازحين، إذ إن العديد من الفلاحين أصبحوا يعودون مع الخريف إلى أراضيهم الفلاحية لزراعتها، لكن آدم رغم إقراره بذلك إلا أنه لم يبدي تفاؤلا في هذا الشأن، وقال لنا “هناك من عاد إلى مزرعته لكن المتمردين ضربوه وقتلوه”، وأضاف “في فترة الخريف نذهب لزراعة أراضينا وقبل نضوج المحصول تأتي الإبل والأبقار وتأكل كل شيء”. إلا أن النازح آدم أشار إلى أن هناك “مناطق شرق جبل مرة استتب فيها الأمن وعاد النازحون للعيش فيها وزراعة أراضيهم”، كما أشاد بمشروع القرية النموذجية “ثابت”، والتي افتتحها الرئيس السوداني، حسن عمر البشير، يوم 08 أفريل 2015، والتي مولتها منظمة “راف” القطرية الخيرية، وتحتوي على عدة مرافق ومؤسسات اجتماعية مثل المستشفى والمدرسة والمسجد، وبإمكانها استيعاب آلاف النازحين.لا راحة إلا بعد أكل اللحم “الزول (الرجل) منا إذا مرّ عليه يوم لم يأكل اللحم يشعر بعدم الارتياح”.. بهذه الجملة اختصر عليَّ مرافقنا حمزة، من مجلس الإعلام الخارجي، أهمية اللحم في العادات الغذائية في السودان عامة وفي دارفور خاصة، فإذا كان اللحم الأحمر الطازج في الجزائر لمن استطاع إليه سبيلا، فإن “الكل في دارفور يأكل اللحم إلا من أبى”. فأسعار كيلوغرام من لحم الغنم تتراوح ما بين 40 و50 جنيها سودانيا (نحو 400 إلى 500 دينار جزائري)، بينما يفوق سعر كيلو اللحم في الجزائر ألف دينار. ورغم أن أسعار اللحم في دارفور ليست رخيصة جدا بالنسبة للكثير من الفقراء، لكن اللحوم هي جزء من العادات الغذائية في هذه المنطقة التي لا يمكن الاستغناء عنها، مثل الخبز والحليب لدينا في الجزائر. فالثروة الحيوانية في دارفور كبيرة، وهناك قبائل بأكملها تمتهن الرعي بل تتخصص فيه، فقبيلة البقارة متخصصة في رعي الأبقار، وقبيلة الأبالة متخصصة في رعي الإبل، وعلى عكس الجزائر فسكان دارفور يفضلون لحم البقر على لحم الغنم. ويفتخر السودانيون بنوعية اللحوم لديهم، خاصة فصيلة أغنام “الحمر” لأنها تأكل من مراعٍ طبيعية، وهي قليلة الشحوم. وتصدّر ملايين الرؤوس من الأغنام السودانية إلى السعودية ومصر سنويا. وحيثما تجولت في أسواق الفاشر فإنك تجد طاولات لجزارين يضعون اللحم الطازج فوق قطع كبيرة من الشحم، وبالقرب منهم مواقد شواء اللحم، ورغم وفرة اللحوم وتنوعها (إبل، بقر، غنم، ماعز)، إلا أن تساؤلات تطرح حول مدى احترامها للمعايير الصحية، خاصة أن اللحوم معرضة للشمس والغبار، ولا توجد لدى الجزارين مبردات لحفظ اللحوم.حجاج الجزائر ينشرون الإسلام في دارفور أكد لي أكثر من مصدر سوداني أن الإسلام دخل إلى دارفور عن طريق حجاج جزائريين من الجنوب الغربي للجزائر (أدرار) كانوا يمرون على دارفور في طريقهم إلى البقاع المقدسة وهناك نشروا الإسلام. وقال لي عبد الرحمان صديق، مدير متحف السلطان علي دينار في الفاشر: “الإسلام دخل إلى دارفور من الجزائر، وكذلك الطريقة التيجانية”. ومعروف أن 90 بالمائة من سكان دارفور يتبعون الطريقة التيجانية، التي وُلد مؤسسها ببلدة عين ماضي بولاية الأغواط. ولأول مرة أجد أن أكثر من سوداني في دارفور يعرف بأن التيجانية مركزها الجزائر وليس المغرب، ففي 2010 كثير من التيجانيين الذين التقيتهم يعتقدون أن مركز التيجانية في المغرب وهذا هو المشهور لديهم، لكن في 2015 وجدت الأمور تغيرت. وعندما سألت عبد الرحمان صديق إن كانت قبيلة الرزيقات في دارفور التي لها امتدادات في الغرب الجزائري، وخاصة في وهران، من أصول جزائرية أم لا، كشف لي أن هناك قبيلة في دارفور تسمى “كنين” من التوارڤ الذين جاءوا من الجزائر. وأشار مدير متحف السلطان علي دينار إلى أن دارفور مشهورة منذ القدم بتحفيظ القرآن الكريم ودراسة علوم الدين، وأن هناك قرى بأكملها يحفظ أهلها القرآن عن بكرة أبيهم. وطاف بنا عبد الرحمان صديق أرجاء المتحف الذي هو في الأصل قصر السلطان علي دينار، آخر سلاطين مملكة دارفور، وكان يبدو قصرا متواضعا سقفه من القش والقصب وجذوع الشجر وجدرانه من الطوب، وفي فناء البيت كوخ دائري وسقفه مخروطي من القش والقصب شديد الانحدار، يدعى “القطبة” وهو البناء الشائع في السودان. وتقاس جودة السقف بأن ينزل البنّاء جمرة من أعلى السقف، فإن سقطت دون أن تحرقه، أخذ البناء حقه كاملا. ورغم تواضع قصر السلطان علي دينار إلا أن مدير المتحف أشار إلى أن سلطنة الفور كانت معروفة بغناها بريش النعام وأنياب الفيل الثمينة في ذلك الوقت، لذلك كانت تشتري كساء الكعبة المشرفة سنويا من مصر وتسوق قافلة بكامل تجهيزاتها إلى مكة المكرمة. وحسب عبد الرحمان، فإن سلطنة الفور (نسبة لقبيلة الفور أكبر القبائل الإفريقية في المنطقة) وصلت في أوج توسعها إلى غاية الشاطئ الغربي لنهر النيل في عهد السلطان محمد تيراب (استولت على إقليم كردوفان)، وبقيت على حدود النيل عشر سنوات إلى غاية وفاة السلطان تيراب. وعرف عن سلاطينها التدين، حيث وقف السلطان علي دينار خلال الحرب العالمية الأولى إلى جانب الدولة العثمانية وزود قواتها في ليبيا بـ250 قطعة سلاح، فغضب منه الإنجليز الذين كانوا يحتلون ولايات شرق السودان وقاموا بغزو سلطنة الفور وضمها إلى السودان في 1916. وأخبرنا مدير المتحف أن مؤسسة “تيكا” التركية المتخصصة في ترميم الآثار العثمانية وعدت بترميم قصر السلطان علي دينار الآيل للانهيار.قصة انتقال الحكم من الأفارقة إلى العرب ومن القصص التاريخية لسلطنة دارفور، التي تأسست في 1460م، ما رواه لنا مدير المتحف عبد الرحمان صديق عن رجل يدعى أحمد من قبيلة عربية دبرت له زوجة أخيه مكيدة، فعقره أخوه (قطع عرقوب رجله) ورماه في الصحراء (شمال دارفور) وتركه ينزف، فوجده السلطان كورو أحد سلاطين دارفور فعالجه ولقبه بأحمد المعقور. وساعد أحمد المعقور السلطان كورو في تنظيم الجيش، فزوجه السلطان بابنته كيرة (خيرة بالعربية)، وعندما مات السلطان ولم يكن له ولد انتقلت السلطة إلى ابنته “كيرة” ومنها إلى زوجها أحمد المعقور الذي أعطى السلطة لابنه سليمان، والذي لقب بالسلطان سليمان صولنج (والتي تعني السلطان سليمان العربي). وبذلك انتقل الحكم في سلطنة دارفور من السلالة الإفريقية إلى السلالة العربية عن طريق المصاهرة، حيث حكمت سلالة السلطان سليمان صولنج منذ ذلك التاريخ إلى غاية سقوط سلطنة دارفور على يد الإنجليز وضمها إلى السودان في 1916.                                    

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات