+ -

بتجديد الرئيس تمسكه بتعديل الدستور، في أوج السجال السياسي الذي وصلت إليه قوى المعارضة المطالبة برئاسيات مسبقة، تعطي السلطة الانطباع بأنها ترغب في استعمال هذه الوثيقة الدستورية كـ”طعم” لاصطياد خصومها وجرهم ثانية إلى ساحتها، بعدما فرت عدة أحزاب من قبضتها وهيمنتها عقب الرئاسيات الأخيرة، حيث نجحت المعارضة في تشكيل تكتل استطاع أن يشكل مصدر قلاقل لمشاريع السلطة في الداخل والخارج. لكن جر الخصوم إلى طاولة “الرضا” مشروط بمدى ما تعرضه السلطة من بضاعة دستورية بوصفة سحرية تجلب إليها القبول وليس النفور. ومن هذا المنطلق، وبعدما ظلت السلطة حبلى بمشروع تعديل الدستور لمدة تجاوزت الثلاث سنوات على أقل تقدير، لا يمكنها أن تكون مثل الجبل الذي تمخض فولد فأرا، رغم أن مقران آيت العربي يتوقع أن الدستور الذي سيصدر هو دستور السلطة فقط، في حين يرى قسنطيني أن الرئيس لن يفصل الدستور على مقاسه.بعد نجاحها في جمع شملها ورفع سقف مطالبهاالسلطة تبحث عن “طعم” دستوري لاصطياد المعارضة أعطت السلطة الانطباع، من وراء تأكيد رئيس الجمهورية على عدم “التسرع أو الارتجال” في تحضير مشروع تعديل الدستور، بأنها بصدد إعداد وثيقة تلتقي عندها كل الأضداد و”تتوافق” حولها جميع الآراء. فهل بمقدور السلطة استعمال تعديل الدستور كـ”طعم” لاصطياد قوى المعارضة وتحييدها عن خيار “المقاطعة” ضد مشاريعها ؟لم تترك حالة التذمر والغضب في صفوف قوى المعارضة، سواء وسط تنسيقية الانتقال الديمقراطي أو قطب قوى التغيير أو هيئة التشاور والمتابعة، إزاء مشاريع السلطة، مساحة كبيرة للمناورة أمام رئيس الجمهورية بشأن محتوى تعديل الدستور الذي أعلن عن تمسكه به في رسالته الأخيرة. ومن هذه الزاوية التشاؤمية التي تخيم على الساحة السياسية، فإن السلطة مطالبة بتقديم وثيقة تعديلات تفتح الشهية ولا تسد الأنفاس، وتمحي الانطباع الذي تركته غداة إرسالها مسودة المقترحات التي سلمتها للأحزاب والمنظمات، بمناسبة المشاورات حول تعديلات الدستور شهر ماي الفارط، وهي المقترحات التي لم تحمل إضافات من شأنها خلق الحركية السياسية وشد الأنظار إليها، خصوصا في ظل العزوف الشعبي الذي ميز المواعيد الانتخابية السابقة.فالدستور ليس مثل المحليات والتشريعيات يجوز تمريرها بأي نسبة مشاركة كانت، فأسمى قانون في البلاد يحتاج إلى أغلبية واضحة لا يمكن تحقيقها أو الوصول إليها خارج تشكيل “توافق” سياسي حول تعديلات الدستور، وهو ما ليس متوفرا الآن، ما يفرض على السلطة ضرورة تقديم “تنازلات” في مسودة الدستور من أجل استقطاب الرافضين وجلب المتحفظين وإقناع المترددين. فهل السلطة بمقدورها الإقدام على هذه الخطوة وتقديم تعديلات للدستور “سخية” في مجال التداول الفعلي على السلطة والفصل بين السلطات وتوسيع الحريات واستقلالية القضاء وتكريس حرية التعبير والتجمع والتظاهر، وخلق نظام سياسي متوازن توزع فيه الصلاحيات بين مختلف المؤسسات الدستورية وعدم تجميعها في يد الرئيس، مثلما هو قائم حاليا ؟ليس أمام السلطة خيار آخر في ظل المعارضة الداخلية التي تواجهها، وهو الإجراء المأمول لتفكيك حالة الاحتقان السياسي والغليان الشعبي الذي تشهده البلاد، والذي جعل صحيفة “لوموند” الفرنسية تصف الجزائر بأنها في “وضع مقلق”، غير أن تشبث أحزاب الموالاة برسم “الخطوط الحمراء”، حتى أمام المشاورات غير الرسمية مع المعارضة، يعطي مؤشرا بأن السلطة ليست مستعدة لتقديم أي تنازلات سياسية في الوثيقة الدستورية التي تعكف على تجهيزها في سرية تامة. كما أن زحزحة موعد عرض هذه المسودة الدستورية منذ جانفي 2011 عقب أحداث الشارع، وتمديد موعدها إلى الثلاثي الأول من سنة 2015، مثلما أعلن عنه أول أمس، الأمين العام للأفالان عمار سعداني بمعية عمارة بن يونس، بعدما قالوا في وقت سابق إنها ستكون في الخريف الماضي، كلها معطيات تعني أن السلطة تجتهد في ربح الوقت أكثر من اجتهادها في إعداد دستور دائم يدخل الجزائر في مرحلة ذهبية من الحريات والحقوق والديمقراطية، وكأن هناك من يدفع بالبلد إلى الانفجار.ترقّب “الظروف المواتية” لتعديله يظل مستمرا للعام الخامس عشرالسلطة لم تلد دستورا بعد 3 سنوات من الحملفي خطاب ألقاه يوم 28 أكتوبر 2008 بالمحكمة العليا، قال الرئيس عبد العزيز بوتفليقة: “كنت قد أعربت سالفا منذ 1999 وفي 2004 وفي مناسبات عدة عن رغبتي في تعديل الدستور، عندما تكون الظروف مواتية”. وبما أن حكم بوتفليقة لا يزال متواصلا، فترقَب “الظروف المواتية” لتعديل الدستور يظل مستمرا للعام الخامس عشر!علاقة بوتفليقة مع الدستور واحدة من أغرب القضايا التي عاشتها الجزائر في عهد سابع رؤسائها. فمن كثرة المرات التي تعهد فيها بتعديل الدستور، خيل للبعض بأن الوثيقة التي سينتجها بوتفليقة للجزائريين ستقدم لهم مفتاحا لكل مشاكلهم، أو ربما ستضع حدا لتبعية البلاد للمحروقات.في كل مرة يحتدم الجدل حول سبب “تأخر” أو “تماطل” أو “تلكؤ” الرئيس في وضع دستوره الخاص، يخرج بوتفليقة في خطاب ليعلن بأنه متمسك بتعديل الدستور، ويعطي المبررات التي حالت دون تحقيق الهدف. هذه المبررات هي تارة “ثقل الالتزامات”، وتارة أخرى “تراكم الأولويات”. هي أحيانا “تعدد الاستحقاقات” (بمعنى زحمة في الأجندة الانتخابية)، وأحيانا أخرى “الحرص على تفادي التسرع والتقليد والارتجال”. الحقيقة التي لا يريد بوتفليقة مصارحة الجزائريين بها، هي أنه لا يملك تصورا واضحا للمنظومة الدستورية التي يرغب فيها، لا يملك رؤية للنظام المؤسساتي الأصلح للجزائر، وإلا لماذا لم يُسمع الرئيس أبدا يتحدث عن تفاصيل منظومة الحكم التي يحلم بها؟ وهل حدث في أي بلد في العالم أن استغرق التفكير في تعديل الدستور 15 سنة كاملة !؟في آخر مرة اتضح فيها أن الرئيس عقد العزم حقيقة على تنفيذ الخطوة، كانت في 15 أفريل 2011 وبمناسبة الإعلان عن “إصلاحات دستورية”. فقد قال ما يلي: “يتعين إدخال التعديلات اللازمة على دستور البلاد. لقد سبق لي وأن أعربت مرارا عن رغبتي في إخضاع الدستور للمراجعة وجددت تأكيد قناعتي ورغبتي هاتين في عدة مناسبات”. بعدها بأكثر من ثلاث سنوات، كلَف بوتفليقة مستشاره علي بوغازي ليقرأ خطابا يذكر فيه أنه لا يزال متمسكا بتعديل الدستور !!! بينما كان المهتمون بهذا الموضوع يترقبون منه الإعلان عن أمرين أساسيين. الأول تاريخ تعديل الدستور، والثاني تحديد الطريقة التي سيتم بها التعديل، أي هل سيكتفي بالبرلمان كما فعل في 2002 و2008 أم سيرمي بالوثيقة التي كشف عنها في ماي الماضي، إلى الشعب بغرض استفتائه؟لقد استهلك بوتفليقة كل المبررات والمسوغات والآليات في قضية تعديل الدستور. كلف عبد القادر بن صالح في 2011 بجمع الآراء حول الإصلاحات وتعديل الدستور، ولا أحد يعرف مصير المشاورات التي جرت. ثم استحدث لجنة عرفت باسم رئيسها عزوز كردون، اشتغلت مدة طويلة على مسودَة بقيت “سرا من أسرار الدولة”، ويقال إنها رفعت لها تقريرا ولا أحد يعرف مصيره. ثم كلف مدير ديوانه أحمد أويحيى بمعاودة استشارة نفس الأشخاص حول تعديل الدستور، ويشاع أن أويحيى رفع له حصيلة الاستشارة التي عرفت مقاطعة أغلب الأحزاب والشخصيات المعارضة، وهذا منذ أوت الماضي، ولا يعرف إن كان الرئيس، الذي يعاني من هشاشة بدنية واضحة للعيان، أخذ بها أو بجزء منها أم احتفظ بوثيقته الأصلية. نقــــــاشالمحامي والناشط السياسي مقران آيت العربي لـ”الخبر”“أتوقع أن يدعو بوتفليقة لرئاسيات مسبقة بعد تعديل الدستور”ما هي الأسباب التي أخرت اعتماد الدستور إلى هذا الوقت رغم أن الرئيس جعله من أولوياته بعد إعلانه إصلاحات 2011 الشهيرة؟ تعديل أي دستور يحتاج إلى الوقت، لأنه يتطلب إشراك الجميع في إعداده، هذا من ناحية المبدأ. أما تأخره في الجزائر فيعود، في اعتقادي، إلى الصراع القائم بين جماعات المصالح حول الخطوط العريضة للدستور. لكن يبدو أن مؤسسة الرئاسة قد حسمت الموضوع، وفي الأسابيع القادمة ستنشر مشروع الدستور الذي سيحال إلى البرلمان، وربما إلى الاستفتاء الشعبي. لا أستطيع من موقعي التكهن بالخلافات التي كانت موجودة بين هذه الجماعات حول مضمون الدستور، لكن لولا ذلك لكان الدستور قد ظهر منذ زمن.هل يعني ذلك أن مقاطعة المعارضة مشاورات الدستور ليست سببا في تأخير إعلانه؟ السلطة لن تأخذ أبدا اقتراحات المعارضة في النص، لكن ستقول إنها أخذت برأي المعارضة التي شاركت. أما تلك التي قاطعت المشاورات، فلن تعيرها أدنى اهتمام. السلطة لو كانت جادة في العمل مع المعارضة لوافقت على العمل الجماعي قصد التوصل إلى دستور توافقي، ومن ثم فإن الدستور الذي سيصدر هو دستور السلطة فقط.ألا تعتقدون أن مشاركة الأفافاس في مشاورات الدستور قد أعطت للسلطة جرعة أكسجين لإنقاذ دستورها “التوافقي”؟ السلطة لا تحتاج إلى الأكسجين، ولا إلى أي حزب، هي سائرة في طريقها، لأنها تعتقد أن الشعب ما دام لم يخرج للشارع فهو معها، وحتى المعارضة تدعي بأن الشعب معها، لكن حقيقة الأمر أن الشعب لديه هموم أخرى لا تتعلق أبدا بالدستور.في ظل المعطيات السياسية الحالية، هل يمكن للدستور المنتظر أن ينهي حالة الانسداد في البلاد؟ الأزمة في الجزائر هي أزمة سياسية وحلها لا يمكن أن يكون إلا سياسيا. أما الدستور فهو وسيلة للعمل السياسي، ويمكن تعديله في أي وقت. أتوقع أن الرئيس يعتبر الدستور آخر محطة في مسار ما يسمى بالإصلاحات. وقد يفكر في تقليص عهدته بعد وضع اللمسات الأخيرة، ثم يعلن انتخابات رئاسية مسبقة ويدخل إلى بيته ليهتم بصحته.لكن إذا دعا الرئيس إلى انتخابات مسبقة كما تقولون، يكون قد حقق أجندة المعارضة؟ الرئيس إذا أعلن رئاسيات مسبقة، لن يكون قد استجاب للمعارضة التي تتبنى هذا المطلب، لأن المعارضة ليست متواجدة في الميدان. هو يعلم جيدا أن معارضة البيانات والاجتماعات في العاصمة لن تؤثر عليه. لذلك إذا قلص الرئيس من عهدته سيدخل ذلك ضمن أجندة النظام وليس أجندة المعارضة.رئيس اللجنة الوطنية الاستشارية لترقية وحماية حقوق الإنسان فاروق قسنطيني لـ”الخبر”“الرئيس لن يفصّل الدستور على مقاسه”الرئيس أعلن أن تعديل الدستور ماض بجدية رغم مقاطعة جزء واسع من المعارضة. هل يئست السلطة من مسعى التوافق في اعتقادكم؟ لا شك أن الدستور يشكل قضية على مبلغ كبير من الأهمية للوطن. وقد صاحب مسار تعديل الدستور الكثير من الضجيج واللغط، فأراد الرئيس أن يضع حدا لكل ذلك. صحيح أن جزءا من المعارضة لم يشارك في مشاورات الدستور الأخيرة، وهذا قد يعيب شيئا ما الدستور المنتظر، لكن منهم من شارك في المشاورات التي سبقتها، ومن ثم فإن اقتراحات المعارضة موجودة في مجملها عند من أوكلت لهم مهمة صياغة الدستور من القانونيين والتقنيين، ما يجعل إمكانية الأخذ بها واردا جدا في النسخة النهائية للدستور قبل اعتماده. وهذا في اعتقادي يحقق جوهر التوافق الذي لا يعني المشاركة الجسدية، بقدر ما يتجلى في المساهمة بالأفكار والمقترحات.لكن لماذا تعسر ميلاد الدستور ومدة الحمل تجاوزت 3 سنوات؟ إعداد الدستور، وفق المعايير الديمقراطية المتعارف عليها، ليست عملية بسيطة، بل هو مسار طويل ومعقد، مثلما تثبته تجارب في العالم استمرت فيها كتابة الدستور أشهرا طويلة وحتى سنوات. والدستور الديمقراطي في العادة لا يولد بسهولة، إذ في كثير من الأحيان تكون ولادته عسيرة وحتى قيصرية، ذلك أنه دستور لم يفرض من سلطة أو جماعة بل جاء نتيجة توافقات عميقة وتنازلات من كل طرف خدمة للصالح العام للوطن. ولنا في الجزائر تجربة مع دستور 1976، رغم أن إعداده لم يكن بالطريقة الديمقراطية المثلى أيام الحزب الواحد، إلا أنه أخذ زمنا طويلا، بسبب ما سبقه من نقاشات مستفيضة حول ما ينبغي أن يتضمنه.هل سيعيد الدستور الجديد الوصال في علاقة السلطة بالمعارضة أم سيزيد الهوة بينهما؟ أعتقد أن الموقف الراديكالي للمعارضة من قضية الدستور ستخف حدته مستقبلا إذا وجدت أن الدستور الجديد يحقق مطالبها. مثل مطالب تحديد العهدات، ضمان أن تكون الانتخابات نزيهة وشفافة، تحقيق استقلالية القضاء، تعزيز دور البرلمان، تيسير عملية إخطار المجلس الدستوري، ضمان حرية تشكيل الأحزاب والجمعيات، والنص على الحريات والحقوق الأساسية المعروفة، كالحق في التظاهر والإضراب والعمل النقابي، إلى غير ذلك.لا ينبغي أبدا التشكيك في نوايا رئيس الجمهورية. بحكم معرفتي به، أعتقد أن الرئيس يريد أن ينهي مساره على رأس الدولة بتمكين الجزائر من دستور واقعي وعادل يؤسس لعهد جديد وجمهورية ثانية. السياسيون على هذا المستوى يهمهم أن يذكرهم تاريخ بلادهم. ديغول مثلا لازلت تحتفظ له بلاده بدستور 58 الذي مازال ساريا إلى اليوم. بوتفليقة بعد هذا المسار السياسي الحافل في أعلى مستويات المسؤولية، يريد أن تحترمه الأجيال القادمة، بأن يترك لهذا البلد دستورا يدوم لأطول مدة ممكنة، يؤسس لعهد جديد وجمهورية ثانية. هذا ما يجعلني مطمئنا بأن الرئيس لن يفصل الدستور على مقاسه كما يدعي البعض.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: