تلاميذ طلّقـوا مقاعد الدراسة بحثا عن لقمة العيش

+ -

“اشتري مني، أنا محتاج، أمي مريضة”، عبارات رددها أطفال من جميع الأعمار على مسامعنا لاستعطافنا حتى نقتني منهم ما تعرضه أياديهم الصغيرة، بعد أن وجدوا أنفسهم يطاردون لقمة العيش ورهنوا مستقبلهم بالانضمام مبكرا إلى سوق العمل بعيدا عن حلم التعليم، في ظروف قاسية وسط مجتمع لم يرحمهمولم يرحم ضعفهم، “الخبر” اقتربت من هؤلاء البراعم وعايشت معهم لحظات من يومهم المنهك. هم أطفال أعمارهم بين 8 و13 سنة، التقيناهم في جولتنا الاستطلاعية بشوارع العاصمة، انطلقت من بلدية العاشور، الساعة قاربت الثانية بعد الزوال، جو حار، لكن الشمس التي تلفح الوجوه لم تمنع خديجة عبد الرحمان ومحمد وغيرهم من السعي وراء لقمة عيشهم.أطفال في عمر الزهور اصطفوا في الخط الرابط بين منطقة عين الله ووادي الرمان، وراحوا يتهافتون في حرارة شديدة أمام السيارات لعرض سلعهم المتمثلة في مناديل ورقية وأكياس بلاستيكية وبعض الكتب الدينية بثمن زهيد حوالي 10 -25 دج وكان همّهم الوحيد العثور على زبون يقتني سلعهم.عشاء ليلة أقصى أحلامهالم يكن سهل الاقتراب منهم، إذ وجدنا بعض الصعوبة في الحديث إلى الأغلبية، فهنالك من قام بصدّنا بأسلوب عدائي فور سؤالنا عن أسباب خروجهم للعمل في هذه السنّ المبكرة، لكن سرعان ما التفوا حولنا بعد أن عرضنا عليهم مبلغا ماليا بسيطا، أولهم خديجة وهي فتاة  تبلغ 11 سنة، علامات البؤس كانت بادية على وجهها، عرفنا منها أنها تعيش في منزل قصديري رفقة أشقائها الأربعة، ووالدتها تعمل كمنظفة في أحد المنازل، كما أنها تقوم بمزاولة هذه المهنة منذ أزيد من  سنة لتتمكن من مساعدة عائلتها.عمرها الصغير وجسدها النحيل لم يمنعها من التنقل كل يوم تقريبا من ولاية تيبازة إلى العاصمة رفقة جارهم العامل كموزع سلع بإحدى المؤسسات بضواحي العاصمة، هذا الأخير يترصّد أبناء حيه القصّر الذين يزاولون هذه المهنة لنقلهم  يوميا في شاحنته لمكانهم المعتاد مقابل مبلغ مالي يدفعونه له، علما أن جميع هؤلاء المرافقين لها هم تحت السن القانوني.تقضي خديجة يومها كاملا في كل الفصول تطارد السيارات بمناديلها منذ أن طلقت مقاعد الدراسة مجبرة لا مخيّرة بسبب ظروفها البائسة، قالت إنها كانت تحلم أن تطأ قدماها يوما الثانوية والجامعة لتكون مثل أولئك الأشخاص الذين تطاردهم يوميا وهم خلف مقود سيارتهم، إلا أن حلمها اليوم لا يتجاوز “العودة بمبلغ يسد رمق أشقائها ولو ليوم”.عبد الرحمان طفل بقلب رجلمحطتنا الثانية كانت ببلدية باب الوادي، وتحديدا بمقبرة القطّار، هناك التقينا  الطفل عبد الرحمان صاحب الـ 13 سنة والذي يعمل بائع للزهور عند مدخل المقبرة، رهبة المكان الذي ترتعد له فرائص أقرانه لم يمنعه من البحث عن رزقه بين القبور. يتصرف بكل هدوء وخجل، فقد كان يجلس في ركن ضيق من المدخل وأمامه بعض الورود والريحان، لم يكن كالأطفال الذين صادفناهم من قبل، فتصرفه كان كرجل علّمته الحياة كثيرا.عندما تقرّبنا منه وحدّثناه، عرفنا أنه يتيم الأب ووجد نفسه في الشارع بعدما طرده زوج أمه من المنزل بعد الخلافات “اللامتناهية” بينهما، حيث انتقل إلى العيش في بيت عمه والذي بدوره لم يأبه لأمره ولم يحمّل نفسه أية مسؤوليات اتجاهه، أين قرر عبد الرحمان الخروج للعمل والحصول على مصروفه بنفسه.يقول عبد الرحمان بنبرة حادة وعلامات الاستياء بادية على وجهه “أنا راجل والخدمة للرجال”، مؤكدا أنه رغم حياة البؤس والشقاء التي يعيشها منذ سنوات، إلا أنه لم يفكر يوما في أن يتعدى على أحد أو يسرق، بل بالعكس فقد قام بالعديد من الأعمال كحمل السلع في الورشات وبيع الأزهار وغيرها، الأمر الذي جعله يترك مقاعد الدراسة وهو في سن جد مبكر.شريكان في المسؤوليةتركنا عبد الرحمان ينتظر رزقه من زوار المقبرة، لنستوقف محمد وشقيقه خالد، طفلين لا يتجاوز عمرهما 8 و10 سنوات، تنهّد محمد أكبرهما مثل الكبار ونحن نسأله عن سبب تركه مقاعد الدراسة التي قال إنه غادرها منذ سنتين، ليجيب الطفل القادم من زرالدة، أن حياته تحولت إلى جحيم حقيقي منذ أن تطلّق والداه وأصيبت أمه بمرض السرطان، أين وجد نفسه يواجه صعوبة الحياة وشقائها لوحده فتوجّه إلى الشارع بغية العمل لمساعدة أهله. ترتسم علامات الأسى والألم على وجهه وهو ينظر إلى شقيقه الأصغر خالد، ليواصل “تركت دراستي لأنني لم أتمكن من التوفيق بينها وبين العمل، لكن لن أترك شقيقي خالد يواجه المصير نفسه، فهو لا يزال يدرس ويأتي في أيام العطل فقط لمساعدتي”.خديجة وعبد الرحمن وغيرهم ليسوا سوى فئة قليلة من الأطفال الذين خلعوا عنهم رداء البراءة وتوجهوا إلى العمل الشاق رغم صغر سنهم في ظل غياب قوانين تحميهم ومجتمع يرحم ضعفهم وحاجتهم إلى الرعاية.   

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: