جميلة.. القاصر التي تحدّت “الكومندو جورج” و”بيجار”

+ -

احتفظت “جميلة”، رغم مرور 65 سنة على الحادثة، بالنظرة البريئة نفسها في الصورة الملتقطة من قِبل جندي فرنسي في 7 ديسمبر 1959 بسعيدة وهي تتوسط رفيقيها في الكفاح، الشهيدين مدني بوزيان ومحمد شيخ، وفي فميهما خناجر بعد القبض عليهما من قِبل “الكومندو جورج”.. إنه وجه “جميلة” القاصر بتقاسيمه البريئة الذي تناقلته الجرائد العالمية المجسّد لعدالة القضية الجزائرية، وتجلت بشاعة الاستعمار في وجه الجلاد الكولونيل مارسيل بيجار، الذي أشرف، شخصيا، على العملية وخاطب سكان سعيدة قائلا “سأغادر سعيدة مطمئنا بعد انتهاء مهمتي..”؛ لكنه لم يكن يعرف أن الوحش الاستعماري انتهت “مهمته”، وسيغادر الجزائر بفضل تضحيات جميلة وشيخ وبوزيان وآخرين دخلوا التاريخ من بابه الواسع. وجدنا أنفسنا منذ أن فتحت فطيمة نعماوي “جميلة” باب إقامتها بحي سانت أوجان بوهران وكأننا بصدد تصفح كتاب حول الثورة المجيدة؛ صفحاته الأولى بدأت ذات ليلة من سنة 1957 في مقبرة بسعيدة مكان الاتصال لتلتحق بالثورة رفقة زوبيدة.ليلة القبض على جميلةتبقى أحلك صفحة من هذا الكتاب هي ليلة القبض عليها بمزرعة حمدان علي ولاد لمكلخ  بضواحي سعيدة من قِبل الجيش الفرنسي و«الكومندو جورج” في 7 ديسمبر 1959، أي 4 أشهر بعد زيارة الجنرال شارل ديغول لسعيدة في شهر أوت وتكريمه لأعضاء “الكومندو”، حيث قرر محمد الشيخ النزول من الجبل لتنفيذ عملية بالتزامن مع عيد ميلاد المسيح، “بلغنا خبر محاصرتنا في الصباح الباكر، لجأنا إلى مخبأ سري تحت الإسطبل، لكن يبدو أن العساكر كانوا مزودين بمعلومات دقيقة من قِبل أحد “البياعين”. وظلوا يطلبون منا الاستسلام، قبل أن يهاجمونا وبعد نفاد الذخيرة واستشهاد رفيقين، وهما بوزيد المختص في صنع المتفجرات من تيغنيف وقادة مصطاش، وجرح آخرين، تم إلقاء القبض علينا”.رمي المجاهد علي عوني من الهيلكوبتر والحرب النفسيةصمتت “جميلة” برهة لتلملم شتات ذكريات ذاك اليوم المشؤوم المخلد في صور العساكر الفرنسيين، ثم واصلت “حتى اللباس الذي كنت أرتديه هو ملك للعجوز “بوحانة”، وهي لا زالت على قيد الحياة، بما أن لباسي العسكري كان  مغسولا”. وأضافت مضيفتنا بأن الجيش الفرنسي عثر على كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة مخبّأة في انتظار نقلها إلى الجبل، “وهذه الأسلحة هرّبها جنديان جزائريان كانا يؤديان الخدمة العسكرية. أتذكر أحدهما من قسنطينة واسمه إبراهيم، قبل التحاقهما بالثورة واستشهادهما بعد فترة قصيرة”.وعن سؤالنا “هل كنت تفكرين في الموت في تلك اللحظات؟”، ردت قائلة “الموت كان يترقبنا في كل لحظة.. كان الطقس باردا جدا عندما قرر “بيجار” الطواف بنا عبر أزقة مدينة سعيدة خدمة للدعاية الفرنسية لبث الرعب والخوف في نفوس السكان، ورغم ذلك كنت أسمع بين الحين والآخر أحدهم يقول:  “تشجعوا.. تشجعوا”، خاصة أن مشهد رمي المجاهد علي عوني من طائرة هيلكوبتر كان لا يزال عالقا بأذهان السكان”.عندما يتحول رفيق الأمس إلى عدو اليوماعترفت أن ما حزّ في نفسها أكثر هو ترديد الحركى مع “الكومندو جورج” أغنية “فاطمة الزهراء بنت النبي”، و«كذا قيام المدعو صغير بضربي بالبندقية على وجهي بعد أن ذكرته بالأيام التي كان فيها معنا في الجبل قبل التحاقه بـ«الكومندو جورج” بتحريض من قريبه سليمان إبراهيم”. وهذا الأخير توفي بفرنسا سنة 1968، ويقال إنه قتل على يد قريب له، وأطلق اسمه على دفعة من الجيش الفرنسي في 2010 باقتراح من مارسيل بيجار، الذي غاب عن المراسيم لأنه توفي في اليوم نفسه.تذكرت جميلة أن أحد الحركى أرغم محمد الشيخ على عض السكين مهددا إياه بإدخاله في خديه، وتواصل المشهد لفترة من الزمن، تحت أنظار قائد الكومندو جورج غريو، الذي تقاعد من الجيش الفرنسي سنة 1994 برتبة جنرال، وكذا الكولونيل مارسيل بيجار الذي ألقى كلمة على سكان سعيدة قائلا “الآن أستطيع مغادرة سعيدة بعد انتهاء مهمة القضاء على جيش التحرير”.“أحسست بالشفقة على المجنّدة الخائنة”ولقد تحولت سعيدة إلى مخبر للحرب الثورية بعد انتهاء معركة الجزائر، وحاول بيجار رفقة جورج غريو الذي تعلم الحرب النفسية في الفيتنام منذ سنة 1947 إعادة التجربة في سعيدة، بعد نجاحه في استمالة مجاهدين سابقين كانوا في السجن وتحوّلوا إلى جلادين ضد رفاق الأمس، بحكم معرفتهم لأساليب جيش التحرير وتفننوا في التنكيل بالمجاهدين، على غرار ما فعلوه مع “جميلة” رغم كونها قاصرا أثناء الوقائع، حيث لم تسلم من بطش أحدهم، المدعو “عدّة صرصار”، الذي جرّدها من ملابسها خلال وضعها في مركز تعذيب يقع بمدرسة المازوني، وتقول “لم تفد توسلاتي، وتذكيره بأنه هو من لقنني التمريض والإسعافات في الجبل قبل هروبه رفقة زوجته الجندية “صورية” كذلك للالتحاق بالفرنسيين، ولقد غادرا نحو فرنسا بعد الاستقلال، وفي الثمانينيات زارتني زوجته في بيتي وطلبت مني العفو وعبّرت لي عن ندمها العميق، لأنهم يظلون “خونة” في نظر الفرنسيين”. وعن سؤالنا “هل غفرتي لها؟”، ردت محدثتنا بعد صمت “امتلكني شعور بالشفقة عليها عندما زارتني ووجدتني معززة مكرّمة في بلدي ووسط أولادي وأحفادي”.بقر للبطون ورمي للكلاب.. وإمعان في التعذيب وبالعودة لمجريات تعذيبها روت بأنه بعد تقييدها في غرفة معزولة، لمحت جنود فرنسيين يقتادون رفيقيها محمد الشيخ وبوزيان نحو القبو لتعذيبهما يوميا قبل اختفائهما في اليوم الثالث “سمعت فيما بعد بأن بوزيان استشهد وقام الفرنسيون ببقر بطنه، ومحمد الشيخ استشهد بطريقة مروعة بعد أن نهشته الكلاب وهو حي خلال محاولته للهروب لدفع العساكر لقتله بالرصاص”. كانت محدثتنا في كل مرة تحاول استرجاع أنفاسها قبل مواصلة سرد مسارها “رغم أنني كنت قاصرا لكن ذلك لم يشفع لي لدى الجنود الفرنسيين الذين تمعنوا في تعذيبي وتذوقت شتى أنواع التعذيب كالكهرباء في مختلف أنحاء الجسم، والماء بالصابون، وربطي من الأرجل إلى السقف ورأسي نحو الأسفل.. تمنيت الموت لعدة مرات وكان الجلادون يطلبون منا تحريك الأصابع إذا أردنا الإقرار وتوقيف التعذيب. وكان معنا في السجن شخص يدعى ماماش فقد صوابه من شدة التعذيب ما جعله يضحك طيلة الوقت..”. بعد أيام من التعذيب تقرر نقلها نحو سجن آخر “أمر مسؤول السجن بمعالجتي، لأنني كنت أحمل شظايا قنبلة يدوية في رأسي طيلة مدة التعذيب دون أن يقوم مسؤولو المركز بمعالجتي”. يتأرجح الحديث مع “جميلة” بين الطرافة والحسرة و الحزن؛ ضحكنا معها عندما تذكرت قصتها في سجن الدرك بسعيدة مع العجوز فاطمة بلمسعود التي كانت في مركز الحجز بعين الصفراء رفقة البروفيسور لزرق الذي لا يزال على قيد الحياة: “كانت تشتري اللحم بقطع ذهبية كانت بحوزتها ولم يعثر عليها الجنود وبتواطؤ من حارس يعمل مع الثورة، وأحضر لنا خلسة في المساء “مجمر” داخل الزنزانة، وبعد أن أكلنا أغمي علينا بسبب الدخان ليتفطن الحارس للأمر ويقوم بإنقاذنا”.رحلة السجون بن الجزائر وفرنساوخلال المحاكمة سألها القاضي عن دوافع التحاقها بالثورة رغم حيازتها على شهادة التعليم، ردّت قائلة “تعلّمت في المدرسة الفرنسية أن “جون دارك” ناضلت من أجل تحرير بلدها فأرادت فعل الشيء نفسه لوطني”، فحكم عليها بعشرين سنة سجنا نافذا، مكثت 6 أشهر في سجن معسكر، قبل نقلها باتجاه وهران في شاحنة رفقة المناضل الطبيب ستيفانيني وأحمد بن سعدون مفتش الولاية الخامسة، “هذا الأخير عندما قلت له بأنني كنت معه في الشاحنة رفض الاعتراف بذلك، وقلت له بتهكم ربما قاموا بنقلك بطائرة لأنك مسؤول كبير!”.واعتبرت جميلة بأن الدكتور ستيفانيني كان يمثّل بحق وجه فرنسا الإنساني وحقوق الإنسان وفلسفة الأنوار، من خلال وقوفه إلى جانب الثوار ورفضه تسليم جرحى كانوا تحت مسؤوليته بمستشفى سعيدة، وهو ما كلفه متاعب كبيرة مع مسؤولي المكتب الثاني والحكم عليه بعشرين سنة سجنا. وبعد فترة قضتها في سجن القصبة بوهران قررت السلطات الفرنسية تحويلها نحو سجن الحراش مع رفيقتها زوبيدور حليمة المدعوة “ماما” وسوياح الهواري.استرجعت “خديجة” بمرارة معاناة حليمة التي توفيت قبل ثلاث سنوات، وقالت “عندما سألت بعض مسؤولي المجاهدين لماذا لم يحضروا جنازتها؟ قالوا بأنها توفيت يوم جمعة، وفي كل مرة كنت أحاول لفت انتباه السلطات إلى هذه المجاهدة التي ذاقت العذاب في السجون الفرنسية وكافأتها جزائر الاستقلال بتوظيفها كمنظفة بمسرح وهران لغاية تقاعدها”.تم تحويلهم  إلى سجن “لي بومات الصغيرة” بمرسيليا المخصص للنساء قبل جمعهن بسجن مدينة ران. التقت بسجينات جزائريات على غرار زهرة ظريف وجميلة بوباشة وفاطمة طنجاوي ودانييل مين وجاكلين قروج وأخريات.العودة إلى الوطن تتقاطع مع خيبات ما بعد الاستقلالوشاء القدر مرة أخرى أن يتقاطع مسارها بحكم إطلاق سراحها وإقامتها لدى عائلات في باريس مع الطبيب سيتفانيني وزوجته التي استقرت بفرنسا لتكون بالقرب من زوجها المسجون، تقول “كنت أذهب معهم في زيارات يومية لمدينة باريس ومعالمها الأثرية، قبل قرار عودتنا إلى الجزائر في جوان 1962 ومكثنا بمدينة “روشي نوار” (بومرداس) فترة بسبب الوضع الأمني المتردي في سعيدة بسبب جماعات منظمة الجيش السري، ثم تنقلت نحو البيض ومكثت هناك بمركز قيادة المجاهد مولاي براهيم لغاية الاستقلال”.لكن نشوة الاستقلال لم تنس جميلة حجم التضحيات رفاقها الذين استشهدوا، حيث تقول “في أحيان كثيرة  عندما أكون لوحدي أجد نفسي أتذكر كل وجوههم والأحداث التي عشتها وكأنها وقعت البارحة”. وأضافت وهي تتحسر “للأسف، الوافدون من الحدود ومن وجدة ومجاهدو ربع الساعة أفرغوا الاستقلال من محتواه وحولوه إلى مصدر للانتفاع والريع بشهادات مزيفة والاستيلاء على الأملاك الشاغرة”. تذكرت بأن الدكتور كولدويس ستيفانيني سلمها قبل مغادرته وهران مفاتيح فليته “بسانت ايبير”، لكنها سلمت بدورها المفاتيح لأحد المسؤولين الذي استحوذ عليها، وقال لها فيما بعد “جابلي ربي خبزة من السماء”.وكشفت لنا “جميلة” بأن إيمانها بنضالها في سبيل اللّه ومن أجل الوطن جعلها تنتظر لغاية 1968 لاستخراج وثائق العضوية في جيش التحرير الوطني. ونحن نتبادل أطراف الحديث دخل علينا أحفادها الصغار، وطلبوا من زميلنا المصور أخذ صورة مع جدتهم فاحتضنتهم بقوة وفي عينيها نظرة مملوءة بالإنسانية، مماثلة لنظرة الطفلة “جميلة” ذات ديسمبر 1959 بشوارع سعيدة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات