+ -

أنهت محكمة الجنايات بالبليدة، بعد 35 جلسة، فصول محاكمة قضية بنك خليفة، لكنها فشلت في حسم الجدل حول هذه الفضيحة الممتدة منذ ما يربو عن 12 سنة، بتركها مناطق مظلمة في الملف خارج أضواء العدالة، وإبقائها أسئلة عديدة دون إجابات شافية، حتى باسترجاع العلبة السوداء في القضية، عبد المومن خليفة، الذي آثر “كبت” ما لديه على كشف ما كان يعد به. مثل ماء البحر الذي لا يزيد شربه إلا عطشا، جاءت جلسات محاكمة قضية بنك خليفة، إذ كان كل متهم يمر على الاستجواب أو شاهد يطلب للإدلاء بالشهادة أو ضحية يقف ليشكو ضرره، إلا ويزيد الملف غموضا وتعقيدا، والأهم من ذلك تساؤلا حول مصير آلاف مليارات الشعب التي أودعت لدى البنك ولم يظهر لها بعد سنة 2003 أي أثر.ولأن الفضيحة ارتبطت باسمه وبنكه، كان ينتظر من كلام عبد المومن خليفة، أول متهم مستجوب، والحاضر في المحاكمة بعد “دراما” هروبه ومعركة تسليمه من السلطات البريطانية، الأثر الحاسم في إخراج القضية من الحديث عن الخروقات البنكية التي شهدتها محاكمة 2007، إلى تفجير علبة الأسرار التي يختزنها حول علاقته بكبار المسؤولين في الدولة، ووجهة الأموال التي كان يسحبها بـ”الشكارة” من الخزينة الرئيسية.هل في الصمت حكمة؟بيد أن شيئا من ذلك لم يكن. فقد آثر الفتى الذهبي “حكمة” الصمت رغم أنها في حالته لم تكن “حكمة” بقدر ما كانت توريطا لنفسه في مزيد من المسؤولية حول حقيقة التهم المنسوبة إليه، في مشهد بدا سرياليا عندما قال للقاضي “لدي أشياء لا أستطيع قولها”، إذ كيف لمن يلف رقبته حبل السجن المؤبد، أن يصمت في آخر فرصة ذهبية تمنح له ليكشف الحقيقة التي لن يخسر بقولها شيئا.هذا الصمت الذي كان يشبه في حالة عبد المومن خليفة حالة “الكبت” المرضي، ذهب بالتأويلات بعيدا، فقيل إنهم اشتروا صمته بصفقة مقابل التخفيف عنه، أو إعطائه معاملة تفضيلية في السجن، لكن هذه الإشاعات التي كانت تتردد في بهو مجلس قضاء البليدة لم تجد أحدا ليؤكدها أو ينفيها، وحتى دفاع عبد المومن الذي يمنحه القانون حصانة في المرافعات، لم يجرؤ على الاقتراب مما سكت عنه موكلهما مضطرا، كما قال.وعند طرح هذه الإشكالية على محامين محايدين، يجيبون بأنه فعل ذلك “لأن خصومه لا يزالون في الحكم”. والدليل، حسبهم، ما كشفه في لقائه من منفاه في لندن مع قناة “الجزيرة”، من أن الرئيس بوتفليقة نفسه هو من يقف وراء تفليس بنكه لأنه كان على خلاف تاريخي مع والده خليفة لعروسي، أحد وجوه جهاز “المالغ” في الثورة، غير أن هذا التصريح لم يكن سوى عنوان عريض ومثير ينتظر تفاصيل تؤثث مضمونه، أبى عبد المومن أن يبوح بها.النزول بالمعركة من بوتفليقة إلى تواتيوبعد أن كان “الخصم” على “الجزيرة” برتبة رئيس الجمهورية، صار أمام محكمة الجنايات مجرد نائب لمحافظ بنك الجزائر، في شخص علي تواتي، حمله خليفة مسؤولية سحب الاعتماد والذهاب إلى تصفية البنك، لكن الرجل صمد أمام المواجهة، وألقى بالمسؤولية نحو الجهاز التنفيذي للدولة، موضحا أنه أرسل تقريرا مفصلا لوزير المالية مدلسي (رئيس المجلس الدستوري حاليا) سنة 2001 يكشف خروقات بنك خليفة (اختفى لاحقا من مكتبه)، لكن الأخير لم يقم بواجبه في التبليغ لدى الجهات المختصة لوقف الكارثة، ولم يحاسبه أحد بتهمة الإهمال.عند هذه النقطة، برزت في المحاكمة تناقضات قرار الإحالة، وهو كتاب يصدر عن غرفة الاتهام متضمنا وقائع التهم، ولا يمكن للقاضي أن يخرج عن حدوده في تكوين القناعة وإصدار الحكم. هذا الكتاب جاء مفصلا ومهندسا على مقاسات شخصيات بعينها جعلها في مقام الشهود بينما كان محلها المفترض هو الاتهام في القضية، كحال المتهمة بن ويس ليندة التي يتشابه قرضها مع الذي حصلت عليه شركة بوشوارب، فوجدت نفسها متهمة ووجد نفسه شاهدا ! وحال مديري المؤسسات العمومية والتعاضديات المتهمين أيضا دون وزراء قطاعاتهم، حميد طمار وأبو جرة سلطاني وشكيب خليل ومحمد العربي عبد المومن وعبد المجيد تبون والأمين العام للمركزية النقابية عبد المجيد سيدي السعيد، الشهود في القضية، رغم أن القانون يجعلهم شركاء في المسؤولية.شوووت.. عبد الغني بوتفليقةلكن الذي لم يذكره المحامون إلا خافتا، أن ثمة شخصيات لم تسقط من الاتهام فحسب لكن من الشهادة أيضا، كحال شقيق رئيس الجمهورية، عبد الغني بوتفليقة، الذي كان محامي مجمع خليفة ولم يستدع للشهادة حول الخروقات القانونية التي يتابع فيها مسيرو البنك، ولم يطلب للإدلاء بأقواله حول الشقة التي اشتراها له عبد المومن خليفة في العاصمة الفرنسية وتنازل عنها للمصفي، واحتمال أن يكون في ذلك تضارب للمصالح.وبإصدار الحكم يوم 23 جوان، ستحتفظ الذاكرة الوطنية فعلا بأن عبد المومن خليفة استرجع وحوكم في الجزائر، لكن في محاكمة غابت عنها الحقيقة التي هي جوهر العدالة، وعجزت عن الوصول إلى جيوب من سرق آلاف مليارات المؤسسات العمومية، والأخطر من ذلك أنها أكدت أن جزائر 2015 لا يزال بها أشخاص فوق القانون.    

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات