+ -

توسّم أحمد السميري خيرا في مطلع صبح صيفي جميل لم يشتم فيه رائحة دم أو بارود،أو يسمع فيه هدير دبابات أو جرافات كانت تعتاد التجوال على الشريط الحدودي المتاخم لقطاع غزة، بينما يجلس المزارع خالد العمارنة على صخرة في أرضه بوادي عبد الرحمن شمال سلفيت، باكيا حاله وشاكيا للّه ظلم الاحتلال ومنعه من دخول أرضه التي تقع خلف الجدار بالضفة الغربية المحتلة. “الخبر” في حضرة هؤلاء، ووقفت على قصص معاناتهم وعاشت لحظات مرعبة معهم، شاهدة على آلاف الهكتارات الزراعية المزروعة بالحبوب والمحاصيل التي يعتنون بها كما يعتنون بأبنائهم، فيتحين قاطعو أرزاق البشر بني صهيون الفرصة لإتلافها كلما اقترب موعد حصادها.لا مكان لأغنامكم هنا!من بعيد يلمح المواطن أحمد السميري جنديا إسرائيليا من حرس الحدود يتحصن داخل قلعته الخضراء، على حدود غزة الشرقية.. لم يكن يعيره انتباها، لاسيما أنه خرج طمعا في إطعام أغنامه.الهدوء يلف المكان لكنه مشوب بالحذر الشديد، تقدمت نحو تلك المناطق الشائكة لأقف عن كثب على معاناة السكان.. في هذه اللحظة تقدم السميري قطيع أغنامه الذي يزيد عدده عن مائتي رأس وفي يده عصا يتكئ عليها كلما أصابه تعب، ويسير ببطء تجاه السلك الشائك، الذي يفصل غزة عن الأراضي المحتلة عام 48. تخطت قدماه عشرات الأمتار، والأغنام انتشرت تأكل بقايا العشب الأخضر الذي نهشته جنازير الدبابات الإسرائيلية قبل نحو 10 أيام خلال توغلها شرق خان يونس وفي حربها الأخيرة، فيما جلس على تله ينظر المكان حوله.سرنا آلاف الأمتار وما لبث المزارع أن التقط أنفاسه حتى قطع السكوت صوت طلقات نارية وجهها الجندي الإسرائيلي الذي يعتلي برجه العسكري نحونا.. للوهلة الأولى كنت أظنها طلقات طائشة، لكن تبين بعد ذلك أنها مقصودة ومصوبة تجاهنا.هكذا كانت محاولة الجندي الإسرائيلي لإخافة الراعي وثنيه عن المكوث في المكان، لكن السميري حاول عدم الالتفات إلى الخلف، لكن الطلقات ظلت تقطر واحدة تلو الأخرى تجاهنا. هرول السميري مجبرا لإخلاء المكان وهو يضرب بعصاه الأغنام لتعود أدراجها، ويقول كلمات مبهمة، تستدعي من الأغنام الالتفات والسير خلف راعيها.السميري ذو البشرة السمراء يعمل راعيا في مزرعة أغنام، كان الاحتلال قد دمرها وقلبها رأسا على عقب، لذلك يقول: “لم تتبق لنا مزارع، ما الذي يدفع بنا لنأتي إلى الموت بأقدامنا؟ أليس ما صنعه الاحتلال بنا يستحق منا أن نجازف بأرواحنا؟”. يصمت ضاربا بعصاه الأرض، ثم يشير بأصبعه باتجاه منازل مدمرة على بعد مئات الأمتار.. “هناك مزرعتنا التي جرفها الاحتلال أثناء الحرب”.يُخرِج الراعي صوتا ممزوجا بين الجد والهزل “في المزرعة دمار، وعلى الحدود موت.. وفي الحالتين “خراب ديار”. وينتظر السميري أن يتحقق الهدوء والاستقرار ليطعم قطيع غنمه الذي حرم مأكله ومزرعته بعد حرب طالت الأخضر اليابس.وفد الصليب الأحمر الدولي على الحدودغادر المزارع الفلسطيني المكان مرغما، وغادرتها أنا لأنتقل إلى مكان آخر على الحدود بعد تنسيق ومعاناة صعبة للغاية وصلت على بعد 500 متر من الحدود، أقل ما يمكن وصفها “صحراء قاحلة”.. لا ترى سوى “الجيبات” العسكرية ومنطاد مراقبة، وغير الذين جازفوا للوصول إلى أرضهم ليرووا معاناتهم لـ«الخبر”.. “نحن المزارعين نتعرض للانتهاكات التي تمارس ضدنا من قِبل الاحتلال الإسرائيلي، وبمجرد الوصول إلى أراضنا يتعمد الجنود إطلاق الرصاص تجاهنا، وأصيب بعضنا لمنعنا من القدوم مرة ثانية”. هكذا صرخ مزارع في وجه وفد من الصليب الأحمر الدولي جاء ليعاين المكان للتنسيق مع الاحتلال ليتمكن المزارعون من حصد محاصيلهم الزراعية.حاولت بكل إصرار أن أتحصل على تصريح من وفد الصليب الأحمر، لكن دون فائدة، امتنعوا عن الكلام، وفي المكان نفسه صادفنا مزارعا أصيب في كتفيه حين قصد أراضيه الموجودة بالقرب من السياج الفاصل، صاح في وجهنا “نتعرض للموت بسبب السياسات الإسرائيلية ضدنا. تخيل يطلب منا الابتعاد عن الحدود مسافة تتجاوز 500 متر، أين العالم الظالم؟”. ويروي المزارع المصاب أنه يمتلك هو وإخوته أرضا بمساحة 70 دونما كلها قريبة من السياج الفاصل جنوب القطاع، إلا أنه لا يتمكن من الوصول سوى لـ10 دونمات فقط.طرت بأسئلتي إلى مدير عام الإرشاد والتنمية الريفية، المهندس نزار الوحيدي، ويجيب “المناطق الحدودية لا تزال تعاني من عدم الاستقرار الأمني وعدم قدرة المزارعين على الوصول إلى كامل أراضيهم. واقتراب المزارعين من أراضيهم المحاذية للحدود يخضع لعدد من المتغيرات، وعلى رأسها الحالة الأمنية السائدة على الحدود ومزاج الجنود الإسرائيليين المتواجدين في تلك المنطقة وغيرها، ولذا عدم قدرة المزارعين على الوصول لأراضيهم يحرم القطاع من 22% من إجمالي مساحة الأراضي الزراعية”.من أشواك غزة إلى سرطان الضفةومن تخوم غزة الشائكة إلى السرطان الاستيطاني في الضفة إلى هنا، تفاجأ خالد العمارنة 78 عاما من سلفيت، قبل أيام لسرقة أرضه وتجريفها لصالح مستوطنة أريئيل، وصارت أشجار الزيتون في حقله تميل للاصفرار، بعد أن كانت حدائق ذات بهجة، نتيجة إصرار الاحتلال على عدم إعطاء الوقت الكافي له ولبقية المزارعين للعناية بها.تزداد حسرة خالد حين يسمح له الجندي الصهيوني بدخول أرضه فيرى حقول زيتونه تقلع وتجرف من قِبل المستوطنين لبناء المزيد من الوحدات الاستيطانية في “أريئيل”، التي تعتبر ثاني أكبر مستوطنة في الضفة الغربية. ويضيف بحسرة وغضب: “أرضي وزيتوني عزله الجدار؛ فقبل بناء الجدار العنصري كنا متى نريد أن ندخل أرضنا أو نفلحها لا أحد يعترضنا، وننام فيها أياما وليالي خاصة في الصيف، وكانت تريح وتسر الناظرين بأشجارها وزيتونها نتيجة العناية بها، والآن صار لزاما علينا موافقة الاحتلال لفلاحة أرضنا خلف الجدار.. قبل أيام سمح الاحتلال لنا نحن المزارعين بدخول أراضينا خلف الجدار بالتنسيق مع الارتباط، وسط معاناة الانتظار على البوابات في البرد القارس، إلى أن جاء أحد الجنود وفتح لنا البوابة بعد تفتيشنا وإذلالنا”، يروى خالد مرارة دخول أرضه.خالد يصف جنته وناره: “كنت أفلح أرضي بكل أنواع البقوليات. أرضي كانت جنتي، وكانت تبدو كحدائق ذات بهجة تسر الناظرين؛ ولكن أقول عنها الآن “هي ناري. الخراب يسودها، والخنازير تتلفها، ولا يوجد ما نزرعه فيها غير بعض العناية بما تبقى لنا من أشجار الزيتون، ولا نعرف متى يجرفها الاحتلال لتوسعة ثاني أكبر مستوطنة في الضفة الغربية”. ويواصل “على مدار العام نشكو العالم كله والصحافة من تصرفات جنود الاحتلال.. الجنود لا يتركوننا في حال سبيلنا؛ وهدف الاحتلال هو قهرنا كي يدفعنا لترك أرضنا، وأن نيأس منها ونتركها لقمة سائغة لهم. لكننا سنبقى صامدون ما دام الزعتر والزيتون”.ويوجد عشرات البوابات الحديدية على طول جدار النهب والضم، في سلفيت، ومئات منها في بقية الضفة على طول الجدار، تراقب بكاميرات ومجسات ودوريات تجوب شوارع الجدار من الداخل، وتمنع الاقتراب من البوابات لأي كان إلا خلال عبورها والمرور منها بمراقبة الجنود.البوابة العنصرية والتصاريح الأمنيةوفي بلدة جيوس بالضفة الغربية، قال المزارع أحمد زيد: “لا أستطيع أن أستمر في حياة بين الارتباط الإسرائيلي والبوابة العنصرية وإصدار التصريح الأمني، والطلب باستمرار بتحديث البيانات وكأني موظف لديهم”، ويكمل المعاناة “مزارعو جيوس محرومون من الوصول إلى ثمانية آلاف دونم، فحياتهم مرتبطة ببوابات الجدار وتصاريح المخابرات، ومضايقات المستوطنين وحراس الجدار المتاخم لبيوت القرية من الناحية الغربية”.وفي موقع آخر في قرية كفر جمال من الجهة الشمالية لطولكرم، يقول الناشط والمزارع عبد اللطيف خالد بحديث ممزوج بألم الحدث: “في كلمات أهل البلد رعب تظنه من حرب قادمة. تشريد ونكبة جديدة. الناس هنا لم يصحوا بعد من آثارها بعد 65 عامًا من النكبة”.اليوم يقف هؤلاء أمام التاريخ من جديد، رعبهم في هذا الزمان من جدار إسمنتي وسلكي مكهرب ثبَّت حصارهم، وقضى على ما تبقى لهم من أرزاق وحياة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات