+ -

رغم الخطاب الرسمي بانفتاح الدولة ومؤسساتها على وسائل الإعلام واعتبارها شريكا لها في خدمة الاتصال والتواصل مع المجتمع بمختلف شرائحه، إلا أنها تقف عاجزة مستسلمة لمخابر صناعة الشائعات وامتهان المناورات في التعامل مع قضايا البلاد. وفي الوقت الذي تتطلع الصحافة لقبول السلطات بفتح فضاءات جديدة للممارسة الإعلامية المحترفة والمبنية على روح التعاون بينها، على اعتبار أنها مصدر للمعلومات الصحيحة، لتنوير الرأي العام الباحث عن حقه في الإعلام، فإن السلطة تبدو هي الضحية لما تنتجه بعض مكوناتها من “إشاعات” تزيد من الغموض الذي يحيط بأدائها وحصيلة خططها وبرامجها على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما يفتح الباب أمام الكثير من التساؤلات حول أهداف الذين يقفون وراء هذا الأداء الهزيل للاتصال الحكومي والمؤسساتي.

مسؤولون يبتلعون ألسنتهم حين لا يكون “الصمت حكمة”الإشاعة تهزم الدولة! يستسلم الجزائريون قهرا في كل مرة لـ”إشاعة” يكون مضمونها “خبرا” عن رجال الدولة أو مؤسساتها العليا أو حتى حياتهم اليومية، فيقومون بترديدها وتحليلها أو حتى النفخ فيها، ثم يختار كل وجهته في التصديق أو التكذيب، وبعد أن تشغلهم أكبر وقت ممكن تنتهي إما بزوال مفعولها أو إلى الخروج عن السيطرة، فيضطر المسؤول للتوضيح متأخرا بعد فوات الأوان.لم تتعلم الدولة من دروس سابقة قوية، كاد فيها انعدام الاتصال يشل عمل الدولة ويدخل المواطنين في حالة “فوبيا” جماعية تؤدي لا محالة إلى الفوضى، في استدراك ما فاتها من أخطاء ومعالجة ذلك المرض المزمن المسمى “الاتصال المؤسساتي” الذي يفتك بها منذ الاستقلال، ولا تجد سبيلا لعلاجه أو مجرد التخفيف من آثاره الجانبية، فأورث ذلك عند البعض برمجة على استقبال الإشاعات وترديدها آليا دونما محاولة لتفكيك صدقها من كذبها، ربما على سبيل التسلية، قناعة منهم بأن فرص الوصول إلى الحقيقة ضعيفة إن لم تكن منعدمة، في بلد حتى وسائل الإعلام فيه محرومة من الوصول إلى المصادر الرسمية التي تحتكر المعلومة وترفض إعلانها.وفي كثير من الحالات كادت الإشاعات أو ترك “حبلها على الغارب”، كما يقال في المثل العربي، تتسبب في “تكدير السلم العام” و”إثارة البلبلة”، تلك العبارات الفضفاضة التي تعاقب عليها الدولة بشدة في نصوصها القانونية المؤسسة، متجاهلة أنها المتسبب فيها بغيابها عن مواقف لا يكون فيها “الصمت حكمة”، في مشهد عبثي تصير فيه الدولة المطالبة بالحفاظ على الأمن العام، أحد مصادر بل معاول هدمه، ولو طبقت قوانين الدولة على مسؤولي الدولة أنفسهم لحقت محاكمتهم على كل الإشاعات التي عبثت بعقول الجزائريين في السنوات الأخيرة.آخر مشاهد هذا العبث كانت إشاعة قوية انطلقت يوم العيد، تفيد بأن إقامة الدولة في زرالدة التي صار الرئيس بوتفليقة لا يغادرها بعد مرضه، قد تعرضت لاختراق أمني خطير وسمع فيها دوي إطلاق النار في ساعة مبكرة من الصباح. سرى الخبر كالنار في هشيم مواقع التواصل الاجتماعي، ولم ينته لا إلى التكذيب ولا إلى التصديق، وأمام هذا الفراغ الرهيب ذهب البعض إلى حد القول إن الرئيس تعرض لمحاولة انقلاب، وقال آخرون أشياء أكثر فظاعة، بينما الدولة من كل ذلك “صماء” تتكتم على الحقيقة التي لا تملكها إلا هي، ثم تتبع صمتها بإقالات في المؤسسة العسكرية والأمنية القائمة على أمن الرئيس وسلامته، لتلقي مزيدا من الغموض في موضوع يستدعي الوضوح التام.وليس هذا النموذج سوى تكرار لنماذج أخرى أكثر سوءا، أدى فيها فقدان الاتصال بين الدولة والشعب إلى حالات هلع وشك حول حقيقة ما يجري في البلاد، وقد بلغ ذلك الذروة في إشاعات وفاة الرئيس بوتفليقة التي كانت تتكرر في كل مرة ولا تنجح السلطات في إخمادها إلا بعد أن تستفحل وتسيطر على العقول، وفي هجوم تيڤنتورين الذي انتقل بفضيحة انعدام الاتصال في الجزائر من المحلية إلى العالمية، بعد أن صارت الدولة تكذب نفسها، تارة تقول إن الإرهابيين جاؤوا من مالي وتارة أخرى من ليبيا، بينما وكالات الأنباء تتابع التفاصيل لحظة بلحظة وتسوق من الأخبار ما تريد. وتستمر الإشاعات دائما في الجزائر ملاصقة للشخصيات الغامضة في الدولة، على غرار السعيد بوتفليقة الذي قيل إنه يريد تأسيس حزب سياسي، أو الجنرال توفيق الذي تروى عنه قصص لا تنتهي.وإذا كان الخبر صحيحا في الجزائر، فإن سوء تسويقه وإعلانه قد لا يقل سوءا عن الإشاعة نفسها، فتوصية استعمال “العامية” في سنوات التعليم الأولى للتلاميذ التي خرجت بها الندوة الوطنية حول تطبيق إصلاحات المنظومة التربوية، بعد أن أثارت ردود فعل قوية وأعادت أجواء الصراع الأيديولوجي إلى الواجهة، اضطرت وزيرة التربية لنفي الخبر من أساسه، ثم تبين أنه صحيح بالصوت والصورة، فعادت لشرح مقصدها من هذه التوصية، وفي المرتين يتبدى حجم الإرباك الذي تعيشه الوزارات نتيجة ضعفها في ساحة الاتصال والتواصل.والمسألة في عمومها لا تتعلق بغياب الإطارات المختصة أو ضعف الإنفاق الحكومي على هذا المجال، فمديريات وخلايا الاتصال في الوزارات والمؤسسات السيادية تستهلك الملايير سنويا من الرواتب، ولكن المشكل كما يصفه المختصون يكمن في العقلية الأمنية الموروثة عن عهود ولت، والتي جعلت من عقل الدولة يفكر مثل النعامة التي تدس رأسها في الرمل معتقدة أن الناس لا تراها.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات