+ -

يحاول ناصر جابي، الباحث في علم الاجتماع السياسي، تفكيك التشابك الموجود تاريخيا بين مؤسسة المخابرات والشأن العام في الجزائر على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ويعتقد جابي، في هذا الحوار مع “الخبر”، أن بوتفليقة استعاد فعليا صلاحياته في العهدة الثانية، لكن أبقى متعمدا “لعبة” الصراع مع المخابرات، بهدف استغلالها للبقاء في السلطة.هل إزاحة توفيق من المخابرات تعني زوال تأثيرها في الشأن العام الجزائري، بمختلف تنوعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟ كانت ولازالت مخابرات الجيش مؤسسة سيادية مهمة جدا كمركز قرار منذ ما قبل استقلال الجزائر. بالطبع عرف وزنها اختلافا من مرحلة سياسية إلى أخرى، لكن كان مهما في كل الأوقات، حتى في عهد بومدين الذي كان متحكما كمركز قرار في تسيير المخابرات وتوجيهها بما يخدم مشاريعه كرجل - مؤسسة.توفيق مهم كشخص، لأن المقام طال به على رأس هذه المؤسسة التي عرفت به استقرارا كبيرا في وقت اضطرب أداء المؤسسات السياسية الأخرى كالرئاسة على سبيل المثال. لكن مهما كان دور ووزن الشخص على رأسها، نحن أمام مؤسسة مسيطرة، الجزء الكبير من أدوارها يتم في سرية وخارج التأطير القانوني الشفاف، في وقت تعاني المؤسسات السياسية الأخرى، كالبرلمان والأحزاب والحياة السياسة بصفة عامة، من ضعف كبير وسوء أداء وحتى عدم شرعية في عين المواطن، ما يزيد من قوة حضور هذه المؤسسة الأمنية - السياسية الأولى في البلد، ويجعل سيطرتها تبدو وكأنها مقبولة بل ومطلوبة.الانطباع الذي خرجت به شخصيا من النقاشات السياسية والإعلامية العامة بعد الإعلان عن إبعاد مدير المخابرات، أن الجزائريين يريدون تجنب القيام بدورهم كمواطنين في تغيير نظامهم السياسي، وبدل هذا التغيير الجدي المطلوب لمؤسسات الدولة، يعوضون ذلك بتغيير الأشخاص على أساس أنها المهمة المركزية التي ستحل لهم كل مشاكلهم ومشاكل النظام السياسي التي يتخبط فيها منذ عقود. نحن أمام مهمة تاريخية لن يقوم بها غيرنا ولا تحل عن طريق فلان أو علان مهما كان مهما.من موقعك كمتخصص في علم الاجتماع السياسي. ما الذي بنى للجنرال توفيق في الجزائر هذه الهالة التي بلغت الذروة بوصفه “رب الدزاير”؟ لأنه رجل مهم فعلا، تحول إلى لغز لا يراه الجزائريون ولا يعرفونه، لكنه حاضر في كل مكان، نجده وراء كل قرار مهم. “بزغوغ” (كلمة دارجة في الجزائر تعني غول) سياسي فعلي. بالطبع، الثقافة السياسية السائدة لدى النخب خاصة ضخمت من هذا الحضور في بعض الأحيان لتبرير عدم مواطنتها وخوفها. لكنه يبقى حضورا فعليا. مع ذلك. قاصدي مرباح حصل على نفس المكانة في السابق مع بومدين. وكان الاعتقاد كذلك أن إبعاده، وهو العسكري المؤسس للجهاز، سيؤدي إلى إضعاف المؤسسة ويغير من مهامها وأدوارها في علاقاتها مع المؤسسات السياسية، لكن هذا لم يحصل. لأننا أمام مؤسسة وليس أشخاصا فقط. فقد غاب مرباح وبعده زرهوني ولكحل عياط وبتشين، لكن المؤسسة وسيطرتها بقيتا. خوفي أن جزءا من الطرح الذي ساد بعد مغادرة توفيق أنه مطلوب منا أن نعرف ونشاهد بالصور الذي غادر ولم يعد موجودا، لكي ننسى الذي سيأتي. ليس على مستوى المخابرات فقط، ولكن على مستوى مراكز قرار مهمة أخرى كالرئاسة. لتبقى الجزائر محكومة بالماضي ولا تتطلع إلى المستقبل.هل تؤمن بأن إزاحة توفيق كانت نهاية صراع (الرئيس استعاد كامل صلاحياته) أم هي بداية أزمة ؟ جزء من هذا الصراع كان مفتعلا وغير حقيقي، لأننا في الجزائر أمام شبه اتفاق بين العصب المكونة للسلطة. تم بموجب هذا الاتفاق التفاهم على توزيع المصالح والريع أساسا، دون أن يختفي الصراع السياسي والشخصي تماما، لأن السيطرة على مراكز القرار الاقتصادي والسياسي والإداري هي التي تقرب من الريع جراء قرار التعيين في المناصب. النظام السياسي الجزائري مبني على تماه كبير بين السياسي والأمني والاقتصادي، فالذي يحصل على منصب سياسي أو إداري يقترب من الريع ويسهل عليه الاغتراف من المال العام، الذي حصل اتفاق غير مكتوب بين النخب بشأنه أنه يجب أن يحول إلى مال خاص تحت مسميات متعددة وكثيرة في أقصر فترة ممكنة. وهو ما حصل جزء منه خلال العقود الأخيرة.من جهتي، أظن أن بوتفليقة تحصل على أغلبية صلاحيات الرئيس الممنوحة له دستوريا، وربما أكثر، منذ نهاية العهدة الثانية. لكن لعبة الرئيس كانت مبنية على تقديم الأوضاع عكس ذلك... رئيس من دون صلاحيات أو صلاحيات ضعيفة ومخابرات متحكمة في كل شيء. لأن الرئيس نفسه كجيل سياسي وشخص غير مؤمن بالإصلاح السياسي، هدفه كان البقاء في السلطة فقط وقد حصل له ما أراد.ألا تحتاج الدولة المدنية لأن تبنى في العقول أولا قبل أن تكون مجسدة بالقرارات؟ ليس العقول فقط، لكن النصوص القانونية والممارسة السياسية الفعلية قبل ذلك. الجزائريون في انتظارهم مهمة تاريخية كبرى، هي كيف يصلحوا نظامهم السياسي ومؤسسات دولتهم الوطنية التي ضربها الوهن واللاشرعية. تغيير الأفراد لن يفيد فيها كثيرا، مهما كان الشخص المعني، بوتفليقة أو توفيق أو ڤايد صالح. شروط هذا التغيير كانت ولازالت متوفرة، لكننا ضيعنا جزءا مهما منها في السنوات الأخيرة. كان عند الجزائر مال وهدوء سياسي واجتماعي، وطلب دولي يحثنا على التغيير، ونزعة قوية للتغيير لدى الفئات الشابة. شروط لم نستغلها. أنا خائف الآن أننا نكون ربما قد ضيعنا هذه الفرصة في تغيير سلمي لنظامنا السياسي.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: