من مدينة صنعت الأبطال إلى مرتع للرذيلة ووكر للانحراف

+ -

أطلال وبقايا ديار وسط ركام وقمامات أفقدت المدينة بريقها وحوّلتها إلى شبه مقبرة  أو مفرغة عمومية فوضوية.. هذا أفضل توصيف يمكن إطلاقه على واحدة من أبرز المعالم الأثرية والتاريخية في الجزائر.. إنها مدينة ميلة العتيقة الضاربة بجذورها في عمق التاريخ الإنساني، لقد تعاقبت عليها أكثر من 14 حضارة بقيت بصماتها ثابتة إلى اليوم.الوجه المشرق لهذه المدينة التاريخية بات من الماضي، بعدما اغتُصبت المدينة الجميلة بكل ما تضمنته من كنوز ثمينة، لتتحول بمرور الزمن وبفعل الإهمال وغياب روح المسؤولية وعدم تقدير قيمة هذا المعلم الحضاري.. إلى مقبرة. لقد سكت الجميع أمام جريمة نكراء في حق التاريخ والمعالم الأثرية الإنسانية، جريمة ترتكب في وضح النهار والكل يتفرج غير آبه بما تتعرض له عروس الآثار بالمنطقة: مدينة ميلة العتيقة. فقد نسف الإهمال جزءا هاما من مخلفات تلك الحضارات الإنسانية التي تعاقبت على هذه المدينة وألبستها ثوب الحضارة والرقي طيلة قرون، ولكن كل شيء ضاع في فترة غاب فيها الضمير الجمعي لأبناء المدينة والسلطات، ولم يعد لهذه الأيقونة ما يحفظ لها مكانتها بين أيقونات التاريخ البشري وحضارات الأمم.ميلة القديمة كانت على الدوام موطنا للحضارة ومنبتا للرجولة ومصنعا للعلماء والأبطال، فقد عُرفت منذ فجر التاريخ بمكانتها وحصانتها وجمالها، من عهد الرومان والبيزنطيين والوندال والفتوحات الإسلامية، مرورا بالعثمانيين إلى الاستعمار الفرنسي، كلها حقب منيرة ومشرقة اعتز بها أهل ميلة وورثوا منها خصال العلماء والرجال والبطولة، فهي أرض ولود تنجب الرجال والمخلصين.. غير أن دوام الحال من المحال، فقد تغير كل شيء وتبددت تلك العبقرية الميلية واختفت الروح التواقة للعبقرية والطموح وكل صفات الكبرياء، وسادت بدل تلك الصفات الأنانية والمادية والتنصل من روح المسؤولية، فأغرق الطوفان المدينة البيضاء، على حد تعبير شاعر الرومانسية الأول إيليا أبو ماضي في قصيدته الجميلة “الحجر الصغير”، والتي يتحدث فيها عن تخلي كل فرد عن دوره في بناء المجتمع، فما أشبه حال ميلة بمضمون قصيدة إيليا، بعد أن تخلى عنها أهلها وتركوها تواجه وحدها مصيرها المجهول.من مدينة ألف منبع ومنبع إلى مدينة الجفافمن ينكر تلك المكانة التي كانت تحتلها ميلة تاريخيا من حيث كونها عاصمة للماء؟ فكل الأبحاث التاريخية أثبتت أن مدينة ميلة كانت بها آلاف المنابع المائية، وكانت كلها مروجا وبساتين غناء ورياضا ساحرة، وقد استغل الرومان تلك المؤهلات الطبيعية وحوّلوا المنطقة إلى جنة فوق الأرض وعاصمة اقتصادية فلاحية، تخرج كل المحاصيل الزراعية وتصدرها لكل أصقاع العالم. لقد كانت عاصمة للقمح، كما تؤكد الأبحاث بفعل خصوبة أراضيها وجودة تربتها، لكن بمرور الزمن تلاشت تلك المؤهلات واختفت تلك الصور الجميلة، وحلّت محلّها مناظر القبح والقحط والجذب، بفعل التقصير والعجز، وغياب سياسة من شأنها أن تحافظ على تلك المؤهلات وتضمن استمراريتها عبر التاريخ.صحيح أن الاستدمار عاث في الأرض فسادا ولم يبق ولم يذر، لكن رغم ذلك فإن الكنوز الباطنية لهذه الأرض لم تصلها أيادي الاستعمار، وكان في الإمكان إصلاح الأوضاع وإعادة المياه إلى مجاريها، غير أن غياب النية الصادقة والنظرة الثاقبة للأمور حال دون ذلك، واكتفى أبناء ميلة بالبكاء على الأطلال وانتظار المهدي المنتظر لإعادة القطار إلى السكة، فضاع كل شيء وتاه الجميع وغرقت السفينة بمن فيها.لقد بقيت آثار قليلة لتلك البساتين الغناء ولتلك الآثار الرومانية الزاهية، ومنها “عين البلد”، تلك القطعة الأثرية النادرة في العالم التي يجهل لحد الآن مصدر مياهها ومنبعها، كما أنها لا تزال تحافظ على صفاء مياهها وعذوبتها، ولكن حتى هذه العين الرومانية تعرضت مؤخرا للإهمال، ففقدت طابعها الأثري بعد أن طالتها أياد غير مختصة فأفسدتها. وفي غياب مسؤولين يقدرون مثل هذه المعالم حق قدرها، أهمل مسجد أبو المهاجر دينار ثاني أقدم مسجد في شمال إفريقيا بعد مسجد القيروان، ذلك المعلم الإسلامي العتيق الذي بُني بأيدي الصحابي الجليل أبو المهاجر دينار، ودكت المنازل دكا وتحولت إلى أطلال تسكنها البوم والغربان، وقد زادها تفريط أبنائها فيها ترديا وإهمالا، فتهدمت وباتت خرابا، وبها منزل بوالصوف الذي لازال يقاوم ويصارع من أجل البقاء، خلافا لمنزل رفيق دربه لخضر بن طوبال الذي عاد أثرا بعد عين.وتحولت المدينة العامرة الحافلة بالحضارة والعلم والتجارة إلى مدينة أشباح في الكثير من أجزائها وشوارعها، ولم يعد في إمكان أبنائها التنقل ليلا وسط ما تبقى من أزقتها الضيقة، والعار الكبير أنها تحولت بمرور الزمن وبفعل النظرة المادية لبعض أبنائها إلى أوكار للرذيلة، بعد أن فتحت أبواب منازلها المهجورة أمام تجار الرذيلة، يحدث ذلك على مرأى ومسمع الجميع من أبناء المدينة الأصليين، ولا أحد تحرك لحفظ كرامة مدينة بتاريخ مشرق ومجد شامخ.أما الغريب في الأمر فهو أن الجمعية الوحيدة التي ولدت من رحم المعاناة وسميت بجمعية “أصدقاء ميلة” فشلت في الحفاظ على بريق المدينة، وعجزت عن انتشالها من الوضع المتعفن الذي تتخبط فيه، ولم تتمكن من تغيير أي شيء من واقعها الأسود، رغم تلك المحاولات والمساعي المهمة في بداية مشوارها، لكنها خلال الآونة الأخيرة أصبحت تكتفي بمجرد ملتقى سنوي يجتمع فيه أعيان المدينة ليتبادلوا التحيات دون الخروج بنتائج ميدانية.ويتساءل بعض المهتمين بهذا الواقع “ماذا لو نطقت المدينة وحدثت عن أوضاعها؟ ماذا سيكون الجواب من أبناء ميلة العتيقة؟ وأية أعذار سيلتمسونها لتبرير إهمالهم لهذه المدينة الجميلة الجليلة الضاربة بجذورها في التاريخ؟”، لاشك أن لسان حالها سيكون “لقد أسأتم إلي وفرطتم في هذا الكنز وتخاذلتم في الدفاع عنه وتنصلتم من مسؤولياتكم التاريخية، لن تقنعوا أحدا بقولكم إن المسؤولية مسؤولية السلطات”.لقد توصلت جهود البعض إلى تصنيف المدينة ضمن المعالم الأثرية العالمية، ووعدت وزيرة الثقافة في وقت سابق ومعها السلطات المحلية بإعادة الاعتبار لهذه المدينة وبعث الحياة فيها من جديد، ومحاربة كل المظاهر المشينة فيها، لكن دون جدوى، لتبقى المدينة في تدهور مستمر، تؤول يوما بعد يوم إلى زوال، والدليل أن آخر معالمها لحقه الانهيار، وأهمها عين البلد.هجرة السكان الأصليين وكراء المنازل.. الطامة التي قضت على ما تبقى من المدينةيؤكد بعض الغيورين على المدينة العتيقة أن من بين العوامل التي تسببت في تردي الأوضاع الاجتماعية بهذه المدينة: هجران السكان الأصليين لبيوتهم وانتقالهم للمدينة الجديدة أو إلى مناطق أخرى، وتحت ضغط الطلب لحالات اجتماعية مؤثرة، اضطر السكان الأصليون لكراء بيوتهم لوافدين جدد من ميلة أو من خارجها، حتى أصبحت المدينة معروفة بكونها محطة عبور ووسيلة للحصول على سكن اجتماعي.بساتين غناء جُففت وجريمة في حق البيئةتستوقفك وأنت تزور أطلال المدينة القديمة وما جاورها تلك البقايا من البساتين الغناء التي كانت تحيط بميلة وكأنها سياج طبيعي أخضر يحمي المدينة وسكانها من مختلف الأخطار، وأولها خطر الأمراض. لقد كان بميلة بساتين نادرة تمتد على مساحة تقدر بـ104 هكتار موزعة على 60 مالكا تفانوا في خدمتها والحفاظ عليها، ويعود تاريخ إنشاء هذه البساتين، حسب أحد الباحثين من أبناء المدينة، إلى حوالي قرنين قبل الميلاد، من قبل ملكة بربرية تدعى “ميلو”، تتموَّن انطلاقا من 9 منابع بعين التين ومارشو.بساتين “ميلاف” في كتب التاريخبساتين ميلة التاريخية تعدت سمعتها حدود الوطن، فقد كتب عنها عدد من المؤرخين والكتاب، في مقدمتهم الدكتور “توما شار” البريطاني الأصل، وحسن الوزان بن الفاسي بن الزيات، وقد حظيت هذه البساتين والحدائق بالعناية الشديدة في عهد الرومان والأتراك وحتى في عهد الاستعمار الفرنسي والمعمرين.منذ سنة 1974 حلت بالمنطقة جريمة تاريخية لا تغتفر، حيث امتدت أيدي السلطات آنذاك إلى منابع المدينة وعاثت فيها فسادا، وقامت بتجفيفها وتحويلها عن وجهتها، الأمر الذي تسبب في جفاف البساتين والإضرار بمساحات واسعة منها بمرور السنين، رغم أن تعليمات وزارة الداخلية آنذاك شددت على عدم المساس بالبساتين والمساحات الخضراء، مع التشديد على ضرورة حمايتها والحفاظ عليها، لتتحول تلك الجنة الخضراء بمرور الوقت إلى مناطق قاحلة وأراضٍ بور، وذهب جمال وسحر تلك البساتين، في جريمة تاريخية سيبقى التاريخ يحفظها في حق كل من امتدت يداه لإفساد تلك الطبيعة الساحرة.ويؤكد السيد بلوصيف، أحد الباحثين في مجال البساتين بميلة، أن الكثير من النباتات والأشجار التي جاء بها الرومان من دول مختلفة كانت موجودة في حدائق ميلة، منها القيقب والبطم والتين بأنواعه الأربعة عشر، وأصبحت كلها اليوم في طريق الانقراض بفعل الإهمال والتسيب والتعدي الصارخ على الطبيعة.البناء الفوضوي كارثة بكل المقاييسوعلى الرغم من أن ميلة العتيقة محمية أثرية ومصنفة ضمن المناطق الأثرية في اليونيسكو، فإن حرمتها تلك استبيحت ولم يعد هناك ما يحمي المنطقة، حيث تُستنزف المنطقة على أوسع نطاق وبتواطؤ الجميع وسكوت مطبق للمعنيين من مديرية الآثار إلى مديرية الثقافة إلى البلدية. فالبناء الفوضوي اليوم في توسع مستمر، ولا أحد تدخل، بل أكثر من ذلك وبمرور الوقت يتم تسوية وضعية أصحاب البناءات الفوضوية، وتربط هذه الأخيرة بمختلف الشبكات وكأنها قانونية، والسؤال الذي يطرحه السكان الغيورون وبعض الجمعيات الناشطة في مجال البيئة: كيف يُغض الطرف عن هذه البناءات التي تقام بمنطقة أثرية محمية وعلى أنقاض المدينة الأثرية والكل يتفرج ثم تتم التسوية؟ هي أمور تستدعي فتح تحقيقات والكشف عن المتواطئين ومحاسبة المتسببين في ما آل إليه وضع هذه المدينة، لوضع حد للنزيف الذي لا زال متواصلا إلى اليوم، والسلطات تتفرج كأن الأمر لا يعنيها، خاصة على مستوى المنطقة المسماة “الجناين”، وقد ندد بعض الغيورين على المدينة الأثرية بما يحدث، ومنهم جمعية بيئية يرأسها عز الدين بن سليمان الذي تأسف لما آل إليه وضع جناين ميلة، مناشدا الوالي التدخل لإنقاذ ما تبقى من هذه البساتين التي تحفظ لسكان ميلة صحتهم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات