+ -

يقال إن قيمة الجنازة من قيمة قارئ تأبينيتها، كذلك الثورة الجزائرية، وهي أعظم ثورة في التاريخ في مخيال الشعوب المتحررة من نير الاستعمار، قيمتها من قيمة صناعها، ومجدها مستلهم من بطولات مجاهديها وتضحيات الشعب الذي احتضنها، لكن والجزائريون يحتفلون بالذكرى الواحدة والستين لاندلاع شرارة نوفمبر 54، يتساءلون عن حقيقة صور بطولات متكررة في الأذهان طالتها بعد أكثر من ستين سنة أعمال تشويش تكتنز بداخلها حرب شهادات ومذكرات وتصريحات وتصريحات مضادة، على مشجب التخوين، وفي ثناياها “حقيقة” مدهوسة بأرجل من صنع تلك الصور الجميلة التي يتلقاها تلاميذ المدارس، حقيقة لم تعرف لها مستقرا يشفي جراح الماضي الملطخة بدماء الشهداء، ولم يرحم الحقيقة هؤلاء الذين رحلوا ومعهم علبة سوداء بمخزون ملغم لثورة، حوّلت “الخاوة” إلى خونة، والخونة إلى مجاهدين، مثلما حوّلت شعبا إلى “متفرّج” على هذا يقول عن ذاك إنه خائن، وآخر يقول عن رفيقه بالأمس “عميل فرنسا”. فهل التراشق بالاتهامات والتخوين نتاج لأخطاء في التقدير خلال الحرب؟ أم من وراء ذلك تصفية حسابات شخصية بتدافع مصالح آنية في جزائر 2015، من لدن هؤلاء الذين شارفت أعمارهم منعرجات أخيرة لدورة الحياة؟  أسئلة كثيرة تُطرح عمّن المستفيد من الصراعات “المُحيّنة” للثورة؟ ولماذا في هذا الوقت بالذات؟ وما خلفيات ذلك؟ وهل الدافع الشخصي بغرض تصفية الحسابات متغير يرقى لأجله الخدش بالثورة؟ وماذا يقول جيل اليوم عما يصدر عن صانع أمجاده؟ وفوق كل هذا، من ومتى سيُكتب التاريخ الحقيقي للثورة؟ ومتى تفتح العلبة السوداء الحقيقية لهذه الثورة؟  البعض أدلى بشهادته فتحرج والبعض الآخر التزم الصمتثوريون يكتمون الشهادة وآخرون رحلوا ومعهم أسرار الثورة يبقى السؤال مطروحا حول عزوف الكثير من الفاعلين والقادة الجزائريين العسكريين عن كتابة شهاداتهم ومذكراتهم حول مجريات الثورة التحريرية، التي أعطت في مرحلة ما طابعا اقترب إلى المثالية والقدسية إلى درجة صدمت بعض الشهادات بعدها بأن الثورة بقدر عظمتها، فإن فاعليها من البشر وعايشوا ظروفا دفعت إلى ارتكاب أخطاء تقديرية برزت في خلافات وتباين في الرؤى والمواقف، كما عكسته حادثة مقتل أحد أبرز الزعماء في الثورة ومهندس مؤتمر الصومام، عبان رمضان، وحوادث ظلت لسنوات من الطابوهات على شاكلة قضية “سي صالح” و”عباس لغرور”.وبين تفضيل بعض القادة والمسؤولين نشر مذكراتهم بعد وفاتهم والتزام الصمت للبعض الآخر، شهدت الجزائر كتابات ومذكرات شخصيات ساهمت في رسم مسار الأحداث على المستويين العسكري أو السياسي ومع ذلك بقيت عدة شخصيات مفتاحية خارج دائرة الكتابة، بل فضل هؤلاء، لاعتبارات لم يعلنوا عليها، أن تظل شهاداتهم طي الكتمان وضمن دائرة ضيقة لم تتعد المقربين والأسرة رغم أهميتها.وظل التاريخ الجزائري المعاصر بين روايات المؤرخين الفرنسيين والعسكريين والسياسيين الذين لم يتردد الكثير منهم في طرح وجهة النظر الفرنسية وطروحاتهم بدءا بالاحتلال إلى الاستيطان والتعمير والسياسات المعتمدة، إلى ردود الفعل حيال ثورة التحرير في الفاتح نوفمبر 1954 إلى مسار المفاوضات المختلفة التي بلغت ختامها في إيفيان والملفات المتعلقة بالاستعمار مثل التعذيب والحركى والأقدام السوداء والبنود السرية أو غير المعلنة في اتفاقيات إيفيان والتجاذبات القائمة بين جبهة وجيش التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية التي قادها مصالي الحاج.بالمقابل، ظل الطرح الجزائري لا يتعدى تقديم صورة مثالية هامة لثورة كانت من بين أهم الثورات في القرن العشرين والأبرز في مسار حركات التحرر مع الثورتين الفيتنامية التي تعد ثورة بارزة أيضا بكل المقاييس، كما أنها مهدت بعد هزيمة ديان بيان فو الطريق لأول شرارة لثورة نوفمبر.تصفية حسابات أم أخطاء تقديرية؟ومع الحاجة الملحّة لتقديم تفاصيل الثورة التحريرية على لسان فاعليها وأهمية إخراجها من النمطية، ومع تردد العديد من الأسئلة حيال قضايا برزت إلى السطح عن طريق كتابات المؤرخين، كان لزاما على من عايشوا الثورة أو اهتموا بها أن يقدموا شهاداتهم بمصداقية وصدقية، حتى في الجوانب السلبية التي لا تنتقص في الواقع من قيمة الثورة ولكن تضمن أن تساهم في إدراك مدى صعوبة الظروف التي كانت تحيط بمفجري الثورة والتي أدت أحيانا إلى بروز تجاذبات وأخطاء تقديرية. هذه النقاط برزت إلى السطح مع أولى شهادات ومذكرات القادة السياسيين والعسكريين، ومن بين أهم الشهادات المقدمة والتي شملت مراحل الحركة الوطنية والثورة التحريرية ثم مرحلة الاستقلال، تلك التي قدمها أول رئيس للحكومة المؤقتة ورئيس المجلس الوطني التأسيسي، فرحات عباس، حيث قدم “الشاب الجزائري من المستعمرة باتجاه المقاطعة”، ثم “أتهم أوروبا” فـ”الحرب والثورة ليل الاستعمار” و”تشريح الحرب”، “الفجر إلى غاية الاستقلال المسلوب”. وعلى العكس، فإن الرئيس الثاني للحكومة المؤقتة، بن يوسف بن خدة، لم يترك مذكرات وشهادات مباشرة باستثناء بعض الكتابات المتفرقة، كما غابت شهادات شخصيات مفتاحية مثل عبد الحفيظ بوصوف وعبان رمضان وسياسيين مثل بن طوبال وكريم بلقاسم وخيضر وبوضياف وبن بولعيد وديدوش مراد وعميروش والحواس وغيرهم. ويفهم أن البعض منهم لم تسمح لهم ظروف بداية الثورة والمحيط العام واستشهادهم بأن يدونوا شهاداتهم، ولكن السؤال يظل مطروحا للقادة الذين عايشوا سنوات الاستقلال ولكنهم التزموا الصمت رغم أهمية دورهم في الصورة مثل بوصوف وبن طوبال وبن يحي وكريم بلقاسم وبوضياف، وإن كان الانطباع السائد هو الالتزام بالرواية الأحادية المختزلة وحساسية القضايا الخلافية التي اعتبر ربما مفجرو الثورة بأنه لا يسمح الظرف بإخراجها للعلن للحفاظ على نصاعة الثورة ومثاليتها للأجيال.رؤساء لم يكتبوا..بعدها تعددت الروايات والمذكرات المباشرة وغير المباشرة، فإذا كان الرئيسان أحمد بن بلة وهواري بومدين لم يكتبا شهادات ومذكرات مباشرة، إلا أنهما حظيا بكتابات وشهادات مثل مؤلف “أنيا فرانكو جزائري اسمه بومدين”. ومع ذلك، ورغم كل الجدل الذي أثير بخصوص دور قيادة الأركان وجيش الحدود وما أثارته ما عرف بقضية “سي صالح” قائد الولاية الرابعة على خلفية هذا الدور، إلا أن هذا الأخير لم يترك شهادات ومذكرات. وعلى النقيض، فإن مذكرات الرئيس علي كافي كانت من بين الشهادات التي أثارت أكبر جدل لاسيما حول الجانب المتعلق بعبان رمضان، علما أن قضية اغتيال عبان رمضان ظلت لسنوات ضمن “الطابوهات”. كما بدأت تخرج إلى العلن قضايا وملابسات عديدة متصلة بعمليات اختراق الاستعمار الفرنسية، من أبرزها عملية “لابلويت”  في 1957 و1958 والتي أعقبت فشل أول محاولة “العصفور الأزرق” واستهدفت المنطقة المستقلة للعاصمة والولاية الثالثة بقيادة عميروش بمعية العقيد غودار والنقيب “ليجي”، حيث كشفت عن جوانب هامة شهادات محمد بن يحي لاسيما الخسائر البشرية التي سببتها.وكانت فترة التسعينات وبداية الانفتاح وعمليات التصحيح ثم سنوات 2000، مجالا لفتح ملفات عديدة مع شهادات قدمت، حيث كتب ياسف سعدي عن مساره وخاصة معركة الجزائر ودور الولاية الأولى والدور المحوري للعربي بن مهيدي، كما كتب الرائد عز الدين الذي كان ملازما للرائد علي خوجة ومساعدا لقيادة هيئة الأركان، مثلما كتب عبد الرزاق بوحارة وعبد الحفيظ امقران الذي كتب “مذكرات الكفاح” وهو الذي لازم العقيد عميروش في الولاية الثالثة، ولم يتردد في انتقاد مواقف الرئيس أحمد بن بلة بداية بمواقفه حيال مؤتمر الصومام.حرب الذاكرةومع تنوع الشهادات، تنوعت أيضا الطروحات وبرزت صورة مغايرة عن ثورة التحرير والتي طغت عليها في بداية الأمر القراءات الفرنسية الموجهة، فكانت شهادات محمد أعراب بسعود الذي لازم كريم بلقاسم في الولاية الثالثة والعقيد بوڤرة في الولاية الرابعة والذي أثارت شهاداته “سعداء الشهداء الذين لم يروا شيئا” حول مقتل عبان رمضان والشكوك التي تحوم حول ملابسات استشهاد عميروش والحواس، كما أثرت كتابات سعد دحلب “مهمة منجزة” وعلي زعموم ومحمد البجاوي وحسين أيت احمد ومذكرات الجنرال حسين بن معلم في إبراز عدة جوانب من الثورة التحريرية، فيما سطر البعض الآخر شهادات غير مباشرة، على غرار شهادة صالح لغرور عن “عباس لغرور من النضال إلى الكفاح”.وسمحت الكتابات التي خطها جزائريون في إبراز جانبين أساسيين الأول أن الثورة التحريرية نبعت من الشعب وإن كانت بقيادة جبهة التحرير الوطني وجيش التحرير، حيث جمعت مناضلين من جميع التوجهات والحساسيات. ورغم أن هدف محاربة العدو المشترك كان قائما، إلا أن ذلك لم يمنع من بروز خلافات في قضايا طفت على السطح لاسيما بعد استشهاد العديد من القادة المؤثرين. وعليه، تمت إماطة اللثام عن قضايا مثل اغتيال عبان رمضان و”مؤامرة العقداء” وقضية “سي صالح “ ومصير شيهاني بشير وعجول العجول وعباس لغرور، مساعد مصطفى بن بولعيد في الولاية الأولى والأزهر شريط.    

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: