كابل الإنترنت.. الحبل السري الثاني للجزائريين

+ -

عاش الجزائريون مؤخرا أطول أسبوع في حياتهم، ليس بسبب تراجع مداخيل البترول التي أدخلت البلاد في أزمة حقيقية، ولا بسبب إجراءات التقشف التي اعتمدتها الحكومة لمواجهة قادم الأيام، بل بسبب العطب المفاجئ الذي طال كابل الليف البصري في عرض ساحل عنابة، والذي قلب حياة الجزائريين رأسا على عقب، بفعل حرمانهم من خدمات الإنترنت التي تحولت من وسيلة من وسائل تكنولوجيات الاتصال إلى ظاهرة اجتماعية حقيقية. تابع السواد الأعظم من المواطنين أطوار العطب الذي مسّ كابل الإنترنت لحظة بلحظة، وظلت أنظارهم مشدودة إلى عرض البحر، على بعد 13 كيلومترا من ساحل سيدي سالم بعنابة، لمتابعة أي تطورات بخصوص عملية إصلاح العطب الذي تكفلت به الباخرة الإيطالية ريمون كروز التي وجهتها على جناح السرعة الهيئةُ الدولية المكلفة بصناعة الكابل، لعلها تفرج عنهم الكرب الكبير الذي ألمّ بهم، إثر الشلل الذي مسّ العالم الافتراضي لزهاء 8 ملايين مشترك في شبكات التواصل الاجتماعي، ناهيك عن العراقيل والمُعوقات التي عانى منها كل المتعاملين، العموميون منهم والخواص، على مدار 6 أيام كاملة مرت وكأنها 6 قرون.مقاهي الإنترنت تحولت إلى مراكز للكآبةوالحقيقة أن الاقتصاد الجزائري غير مرتبط بنشاط التعاملات في البورصة العالمية، وصحيح أيضا أن الجزائر لا تملك حكومة رقمية مثلما تروج لهذا الطموح، إلا أن حادثة انقطاع الإنترنت أظهرت بما لا يدع مجالا للشك بأنها باتت نمطا اجتماعيا يطبع يوميات ملايين المواطنين، لدرجة أنه لم يعد لهم القدرة على الاستغناء عن خدماته ولو لفترات محدودة، لاسيما فئة الشباب الذين بدوا طيلة فترة العطب تائهين يطبعهم الحزن والأسف، وكأنهم ضيعوا عزيزا على قلوبهم، ومنهم من ظهرت عليه سلوكيات عدوانية نتيجة سقوطهم في فخ الإدمان على الإنترنت. وقد حوّلت الحادثة آلاف مقاهي الإنترنت إلى مراكز للكآبة، وأحالت أصحابها على بطالة إجبارية، وأوضح عبد الحميد صاحب مقهى إنترنت في وسط مدينة وهران بأن نشاطه توقف بشكل نهائي، “وكل ما أصبحت أقوم به طوال أيام العطب هو الرد على الزبائن الذين كان سؤالهم المُوحد: جات الكونكسيون؟ ما قالوش وينتا غادي تولي؟ لأصدمهم بالجواب أنه لا أحد يملك الإجابة”.شلل تام في كل القطاعاتوتزامنت حادثة العطب مع مطالبة تلاميذ الأقسام النهائية المرشحين لامتحانات مصيرية في نهاية السنة، “السانكيام” و«البيام” و “البكالوريا”، باستخراج شهادات التسجيل من المواقع التي سخرها الديوان الوطني للامتحانات، الأمر الذي أدخل هؤلاء التلاميذ وأولياءهم في مشكلة كبيرة، خاصة أن المؤسسات التي يدرسون فيها ألزمتهم بإحضار هذه الوثائق في أقرب الآجال، ما جعلهم يتحيّنون عودة التدفق لدى بعض أصحاب مقاهي الإنترنت، في إطار الحصة الزهيدة من التدفق التي كانت تزود كافة المشتركين، حيث أكد الأستاذ “ن. هواري”، معلم في مدرسة بمقاطعة سيدي الشحمي بوهران، أنه عانى الأمرين حتى نجح في تحصيل الشهادات المطلوبة من تلاميذه، بفعل التحضيرات المسبقة لامتحانات شهادة التعليم الابتدائي.من جانبه أوضح “س. محمد”، إطار في الصندوق الوطني للعطل مدفوعة الأجر “كاكوبات”، بأن توقف الإنترنت أدى إلى شل جزء كبير من نشاط الصندوق، باعتبار أن كل الوكالات المتوزعة عبر الوطن تعتمد في عملها على خدمات الإنترنت للتواصل فيما بينها، ناهيك عن تعطل إجراءات التصريح عن بعد الذي يخص المتعاملين وأرباب العمل، في قطاعات البناء والري والأشغال العمومية.والمشهد نفسه عاشته الكثير من المؤسسات الإعلامية والقضائية والاقتصادية، حيث وجد العاملون بها تعقيدات جسيمة نغصت عليهم عملهم اليومي.العطب في الجزائر.. وأثره في كل المعمورةوعلى عكس ما يتصور العامة، فإن انعكاسات “حادثة الكابل” لم يقتصر مداها على أرض الوطن، بل تعدى أثرها إلى خارج حدود البلاد، حيث وجد ملايين الجزائريين المقيمين في المهجر أنفسهم معزولين عن عائلاتهم وذويهم، بفعل توقف المكالمات الهاتفية التي تجمعهم عن طريق تطبيقات “سكايب”  و “فايبر” و“واتس آب”، ما جعلهم يترقبون بدورهم أي مستجدات عن طريق متابعة نشرات الأخبار، مثلما صرحت بذلك لـ “الخبر” السيدة “ك. خيرة” المقيمة في مقاطعة سان دوني بباريس، والتي تأسفت بشدة لوقوع مثل هذا العطب الذي أدخل كل الجزائريين في عزلة تامة.كما تعذر على قطاع آخر من المواطنين متابعة قنواتهم عن طريق نظام “شارينغ” الذي يسمح بفتح القنوات التلفزيونية المشفرة، بطريقة مقرصنة، باعتبار أن هذا الأخير يشتغل بالإنترنت، وهو ما حكم على أصحاب محلات هذا النشاط بعطلة إجبارية رهنت مصادر عيشهم لأيام.التنكيت لتجاوز الأزمةوفي عز الأزمة التي جعلت الأغلبية الساحقة من المشتركين يعيشون على أعصابهم، لم يتخل الجزائريون عن روح التنكيت والمزاح طيلة عمر الحادثة للترويح عن أنفسهم، وتنفيس الكرب الشديد الذي أدخلتهم فيه هذه السابقة، حيث استغل مستعملو الشبكة العنكبوتية الفترات المحدودة للتدفق المتاح لنشر لقطات وصور وفيديوهات مضحكة، تُعبر عن المشهد العام بشكل هزلي تفاعل معه كل المشتركين، حيث راجت صور عديدة أبرزها صورة شاب يمسك بفم قرش يخاطبها بالقول “تاكلي الكابل آه..”، على وزن عبارة “تاكلي الجاج” التي ذاع صيتها على يوتيوب مؤخرا، فضلا عن صورة مكتوب عليها عبارة باللغة الفرنسية “أعلنكما زوجا وزوجة إلى أن تفرق بينكما الكونكسيون”، وصورة أخرى للممثل الكوميدي المحبوب شعبيا عثمان عريوات، وهو يقول “يا لطيف.. نمت بلي الإنترنت عاودت تقطعت”.خسائر بالملايير وسُمعة في الحضيضولم تمر هذه الحادثة التي فضحت ضعف البنية التحتية لمنظومة الاتصال في الجزائر، دون أن تخلف خسائر مادية طالت مؤسسة اتصالات الجزائر بالدرجة الأولى، حيث تكبدت هذه الأخيرة حسب مسؤولها الأول أزواو مهمل، الرئيس المدير العام للشركة، خسائر مالية تجاوزت 60 مليار سنتيم، بمعدل 10 ملايير سنتيم عن كل يوم تعطل، ناهيك عن الخسائر المعنوية بخدش سمعة المؤسسة في الصميم، باعتراف مدير الاتصال بوزارة البريد وتكنولوجيات الإعلام والاتصال عبد المالك تواتي الذي قال إن الحادثة أضرت بصورة المؤسسة في ضوء تحميلها المسؤولية من قبل عموم الزبائن، إلى جانب الخسائر المادية غير المباشرة التي تحمل عبئها العديد من المتعاملين والمستثمرين ممن توقفت مصالحهم مع تعطل الإنترنت، والمقدرة حسبهم بالملايير.الاحتكار يفضح البنية التحتية لمنظومة الاتصالوالمؤكد أن هذه الحادثة التي سيظل الجزائريون يتذكرونها لفترة طويلة، قد فتحت الباب على مصراعيه حول موضوع احتكار استغلال الإنترنت من قبل متعامل وحيد، بعد أن تعرّت هشاشة منظومة الاتصال كلية، حيث يؤكد الخبراء بأنه حان الوقت لفتح هذا المجال للمستثمرين المحليين والأجانب ممن لهم القدرة والرغبة في ضخ أموال من أجل الاستثمار، باعتبار أن المنافسة هي السبيل الوحيد لتحسين الخدمات المتردية مقارنة بدول أخرى، مقترحين إنشاء ما يسمى بالطرق السريعة تحت البحر، أو ما يصطلح على تسميته “ أس أم دوبلفي”، وذلك لإنشاء بدائل وخيارات متعددة يمكن اللجوء إليها أثناء حالات العطب والقوة القاهرة.ولأن الحكومة الجزائرية تعودت بأن لا تتحرك إلا وقت الأزمة، فلم تخرج وزيرة القطاع إيمان هدى فرعون عن القاعدة، حيث انتظرت حتى وقع ما وقع لتبشر الجزائريين بأن الحكومة قررت إنشاء 4 كوابل بدل كابلين اثنين يزودان كامل الشبكة حاليا، وذلك غضون سنة 2017.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: