+ -

بين الحياة والموت مسافة، كان المشهد مختلفا في شارعين متعامدين تجمع بينهما الساعة المنتصبة التي ترقص عقاربها لتدل التونسيين على اتجاه الوقت، بعدما ضيع الساسة اتجاه البلد، شارع بورقيبة المدجج بالفرح والغبطة بضيوف مهرجان قرطاج للسينما والشاشة البيضاء المعلقة في كل القاعات، وشارع محمد الخامس الذي كان غارقا في مهرجان الدم.تحت الصدمة باتت تونس ليلتها قبل الماضية، وبين كفي الحزن نام التونسيون عقب التفجير الدامي الذي استهدف، وسط العاصمة، حافلة الأمن الرئاسي، والأسى الذي لم تغسله الأمطار المتهاطلة منذ ليلتها لم تغسل الأسى الذي أطبق على وجوه الناس، ما تبقى من الحافلة المستهدفة المنخورة من كل جانب، والتي طار سقفها وطارت معها أرواح أعوان الأمن الرئاسي، مازالت في موقع التفجير الإرهابي، أعوان الشرطة العلمية وخبراء المتفجرات ظلوا حتى ظهر أمس يجمعون ما أمكن من شظايا، ويبحثون عن خيط يوصل إلى فك لغز هذا العمل الدامي، وفي الموقع أيضا آثار الدم والجريمة، وقبالة المكان كثير من الحزن الذي يغطي وجوه التونسيين الذين احتلتهم الصدمة بعد التفجير الإرهابي الذي استهدف حافلة للأمن الرئاسي، بما يتضمنه هذا الجهاز من رمزية على صعيد الأهمية والمستوى الأمني.كل التعزيزات الأمنية التي كانت تحيط بمكان التفجير المحاذي لمقر حزب التجمع الدستوري المحل، أخفقت في لحظة فوران عاطفي شعبي، في منع جموع من التونسيين من الوصول إلى حدود مكان التفجير لوضع باقات من الورد وتحية جنود الجيش وقوات الأمن التي كانت تحيط بالمكان، قبل أن يبدأ توافد السياسيين، أولهم كانت مباركة البراهمي زوجة المناضل محمد البراهمي الذي اغتيل في السادس جويلية 2013، والقيادي في حزب العمال حمة الهمامي، وكانت الفرصة مناسبة لنشطاء الجبهة الشعبية الذين تعودوا على تنظيم وقفة أسبوعية كل يوم أربعاء للمطالبة بكشف حقيقة اغتيال المناضل شكري بلعيد، لتحويل الوقفة إلى مكان التفجير الإرهابي. زوجة البراهمي التي كانت تذرف الدموع قالت في المكان إن “تونس ستظل تدفع هكذا ثمن ضد قوى الظلم والظلامية، والبراهمي وشكري بلعيد اللذان قتلا قبل سنتين لم يكونا سوى مقدمة لهذا الثمن، لم يعد الوقت مناسبا لنسأل عن الفاعل، الفاعل معروف، ما يجب أن نسأل عنه الآن هو وحدة تونس المهددة بالتفكك”.لا يخوض التونسيون هذه المرة في السؤال عن هوية الفاعل ولا يبحثون في توقيت ومكان وأهمية المستهدف من التفجير الإرهابي، هذه العناوين لم تعد مثيرة بالنسبة للتونسيين، فالرسالة قادمة من تلك الجبال في الشعانبي أو من مخبأ في مكان ما يتدثر فيه الإرهاب مع متلازماته من المافيا المالية والسياسية، لكنهم يبحثون عن حطب يتدفأون به من برد الأحزاب والسياسيين الذين تاهوا في الشتات، ونقلوا معاركهم إلى استوديوهات القنوات التلفزية، في صورة الجعجعة القائمة بين شقي حزب نداء تونس وصراع الجبهة الشعبية على حركة النهضة، يعتقد محمد طالبي الذي يعمل في حظيرة سيارات قريبة من مكان التفجير أنه “لو حل السياسيون مشاكلهم لما وصلنا إلى هذه الحالة، أنا متأكد أننا سنعيش أياما سوداء قادمة”، بعض اليأس تتقاسمه معه السيدة سليمة التي تعمل في البنك التونسي الكويتي الذي يقع قبالة مكان التفجير، تؤكد سليمة أنه “لن يمحى مشهد التفجير من ذاكرتي، الصورة متشابهة، منذ اغتيال شكري بلعيد ونحن نتخذ الإجراءات والإرهاب يتقدم، نتخذ التدابير والإرهاب ينفذ مجددا، الإرهاب الذي كان ينتقي مغتاليه بات يقتل في أي مكان، اليوم ضرب أمام مكتب عملي، لكني أتخوف من أن يضرب قريبا داخل بيتي”.ليست سليمة وحدها من سكنها الخوف من الآتي، ما يخيف التونسيين أكثر، انتقال الإرهاب من الأحراش وحواشي المدن إلى وسط العاصمة والحواضر، عملية باردو التي تلتها عملية سوسة ووصول الإرهاب إلى قلب العاصمة، يعني إخفاقا استخباراتيا كبيرا، والحديث عن ضرورات مراجعة عمل الأجهزة الأمنية والتساؤلات عن تواطؤ محتمل لم يعد مجرد إشاعات تسوقها الصحافة في تونس. والصحافة التونسية التي لونت صفحاتها بالأسود والأحمر اليوم، وجدت نفسها في قفص الاتهام أيضا من طرفين، جزء من الشارع التونسي بات يتهم الصحافة بأنها جزء من المشكلة الأمنية نتيجة ما يعتبرونه غض الطرف عن تمدد الإرهاب وتغذيه بسبب صراعات مافيا المال والسياسة، وإغراق الرأي العام التونسي في الإشاعات وفي نزاعات شقي حزب نداء تونس، فيما كانت المجموعات الإرهابية تدبر لتنفيذ جرائمها، وحين تسلم الصحافة من اتهامات الشارع، تسوقها عصا الشرطة والسلطة، الصحفيون تعرضوا خلال تغطية التفجير الانتحاري لعصا الشرطة والضرب العنيف، ووجه عدد من عناصر الأمن اتهامات للصحفيين بتغذية الإرهاب والتبجح بحقوق الإنسان والحريات، كما خص الرئيس التونسي الباجي قايد السبسي الصحافة، في كلمته المقتضبة، بدعوة للتثبت من المعلومات والكف عن نشر الإشاعات.بعد يوم من التفجير الدامي، يحاول التونسيون تجاوز الصدمة والانتقال بخطوات متثاقلة من حالة إلى حالة، ومن شارع الدم في محمد الخامس إلى شارع مهرجان السينما في الحبيب بورقيبة، ومن حزن إلى بعض الفرح الذي يوفره مهرجان قرطاج للسينما، إدارة المهرجان أصرت على إبقاء العروض والاستمرار في مهرجان السينما مقابل مهرجان الدم، للصورة والصوت شارع وللقتل والموت شارع، ورسالة برسالة، الدم يوجع لكنه لا يقتل الإبداع، والإرهاب مؤلم لكنه لا يوقف الحياة.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: