+ -

 السلف حسب صاحب لسان العرب ابن منظور، هو من تقدمنا من الأجداد والآباء على مرّ التاريخ، كما قال تعالى “فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين”، والسلف هنا هم قوم فرعون الذين أقاموا حضارة عظيمة لازال العلماء مستغرقين في فك كثير من رموزها، وجاء بعدهم خلف هم اليوم سلفنا، منذ أن فتح الصحابي عمرو بن العاص مصر، وخالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص الشام والعراق، إنهم سلفنا الصالح الذين فتحوا هذه البلاد وانفتحوا على مشاهد عظيمة من إنجازات وآثار حضارات متعاقبة للفراعنة والسومريين والآشوريين وبابل، ولكنهم كان مهتمين بتبليغ الرسالة أكثر من اهتمامهم بجز الرؤوس ونبش الأضرحة وحرق الكتب، حيث لا يزال أبو الهول وتماثيل بوذا والثيران المجنحة شاهدة على أن حضارة كان عنوانها “اقرأ”، وكتابها دعوة للنظر والتدبر في قصص السلف، وما خلفت من آثار على الأرض لا يمكن لها سوى التعقب العلمي لأمم من قبلها عبرة وتثاقفا، وفقا لقوله عز وجل “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق” العنكبوت الآية 20 التي يفسرها القرطبي بقوله “وانظروا إلى مساكن القرون الماضية وديارهم وآثارهم..”، باعتبار أن تلك الآثار مطابقة عملية لما جاء في قصص القرآن، ثم تأتي سلفية “داعش” بأحقادها وكراهيتها وبجهلها وعدميتها وجميع أمراضها، حاملة مطارق من حديد ومناشر كهربائية، وكأنها في حرب بأثر رجعي ضد التاريخ والحضارة، لتقضي مع كل ضربة جبانة على قصة إشراقة أو ومضة أو تجلٍّ لانبثاق عبقرية جسدتها أنامل فنان، ووثقتها ريشة مؤرخ أو عالم، أو جادت بها قريحة شاعر.. وفي حالة استعراضية هي أقرب إلى دعاية جاهلية جوفاء، لابد أن يستعد العلماء بكافة تخصصاتهم لتشخصيها كحالة مرضية، أضرم دعاة السلفية الظلامية النار في مكتبة الموصل التي تضم 8 آلاف كتاب ومخطوط ووثيقة نادرة، بعد أن دمروا قلعة صلاح الدين بتكريت ومقبرة النبي يونس وعشرات الكنائس والأضرحة، إلا ضريحا واحدا هو ضريح سليمان شاه جد مؤسس الدولة العثمانية الذي لم يقترب منه “داعش” كي يضمن استمرار معابر الدم. إنه خريف بعض العقل العربي في آخر تجلياته، وإنها السلفية الظلامية وهي تحاول اغتيال السلفية الصالحة ومواقفها وآثارها، غافلة أنها انطلقت من عدمية، كونها مفارقة لأي معنى من معاني السلفية الصالحة، كما أنها ستؤول إلى عدمية باعتبارها جاهلية وحالة مرضية خطيرة في تاريخ الأمة. ولقد استوقفني في هذا السياق رد فعل مالك بن نبي على الكتاب الذي ألفه الشيخ محمد عبده حول التوحيد، عندما انتقد ذلك التوجه في الكتابة، معتبرا أن المسلم لم يتخل عن عقيدته يوما كي نحاول ردها إليه من خلال هذه المؤلفات، ولكن الأولى بنا أن نرد للدين وظيفته الاجتماعية التي هي وظيفة أخلاقية بالدرجة الأولى، إنها الرسالة التي كان السلف الصالح ينشرها ويحافظ عليها. أما الغريب والمعيب فهو تلازم حالة الجهالة مع حالة الموات التي تقابلها عند المثقفين والأثريين والمؤرخين والمنقبين وغيرهم من مدارس الفنون، وكل مؤسسات المجتمع ذات العلاقة بالموضوع، والتي لم نكد نجد لها ردا على هذه المجازر الفظيعة ضد التاريخ والحضارة، غير ردود فعل باهتة لا ترتفع إلى مستوى ما حدث، من تجاوز للسلفية الصالحة والتعرض الوحشي والهمجي، بل المرضي للموروث الإنساني والحضاري، كما لن نسمع ردا لما يسمى “العلماء” على ما يجري باسم الدين، دليل على أن المناهج والبرامج التي تعلموا وتكونوا من خلالها لم تؤهلهم لاستيعاب مفهوم الحضارة وميراثها، ومدى أهميته للإنسانية، وكذا التاريخ وما يحمله من عبر حث القرآن على تدبرها والتأمل فيها. وفي ظل هذه المعطيات، لست أدري أيهما أولى بالعلاج: حالة الجهالة أم حالة الموات؟ ربما حالة الموات أجدر بالعلاج أولا، لأن علاجها سيسترد السلفية الصالحة، بعد أن يخلصها من اختطاف السلفية الظلامية وعبثيتها المرضية.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: