الأفارقــة ينقذون البناء والفلاحــة من عــزوف الجزائرييــن

+ -

أضحت اليد العاملة الأجنبية البديل الأنسب لشركات البناء ومقاولات أشغال الري والطرقات، فبقدر ما تعزف شريحة واسعة من الشباب الجزائري عن هذه الأشغال القائمة على الجهد البدني الشاق، بقدر ما يجد المهاجرون الأفارقة واللاجئون السوريون ضالتهم في الورشات التي توفر لهم المأوى والدخل الكافي لإعالة عائلاتهم بل وحتى للادخار. هي ممارسات يومية تمنعها القوانين، لكن يفرضها الواقع الذي أثبت أن “الكتلة” الشبانية في الجزائر لا تلبي الاحتياجات المتزايدة لليد العاملة متعددة المهام.كان يسير بخطى متسارعة باتجاه مدخل ورشة البناء الواقعة بضواحي بئر خادم في العاصمة حاملا كيسا شفافا به خبزة وقطع صغيرة من الجبن، يسكت بها نداء بطنه كي يستأنف العمل في فترته المسائية.كانت عقارب الساعة تشير إلى منتصف النهار، حين حاولنا اقتفاء أثر الشاب الإفريقي بين زوايا الورشة الضخمة، لكن استعصى علينا تعقبه وهو يسرع في صعود الطابق تلو الآخر، مارا فوق الأعمدة الخشبية التي يستعملونها كجسر يربط أسطح العمارات العالية، غير مبالٍ بالخطر الذي يُحدق بحياته.يشتغل داخل تلك الورشة المئات من العمال أغلبهم أجانب من مختلف الجنسيات الإفريقية من مالي، النيجر، ساحل العاج وحتى من غينيا كوناكري، وآخرون من جنسيات آسيوية ينحصر عملهم في إعداد الإسمنت المسلح، بينما استعصى علينا العثور على عمالٍ جزائريين، سوى بعض المسؤولين على شؤون الورشة بهندامهم الحسن وقبعاتهم الواقية.محمد وعصمان ومادو.. يتحدون“شبابنا عاجزون عن العمل في هكذا ظروف قاسية حتى ولو دفعت لهم 1600 دينار جزائري لليوم الواحد”، هكذا اختار أحد البنائين الجزائريين القلائل ممن يشتغلون في تلك الورشة التعليق على عزوف أبناء بلده عن الأعمال الشاقة.وعن الأسباب التي جعلته يفضل العمال الأجانب عن غيرهم من أولاد بلده، أوضح محدثنا أن “الجزائريين يصلون متأخرين ويعملون ببطء شديد ويتغيبون عن العمل وقت ما شاؤوا دون أن يعلِمونني، بغض النظر عن إدمانهم في الحديث عبر الهاتف أثناء ساعات العمل”، ويواصل زميله الحديث معلقا على الأمر “البعض منهم يهجرون الورشة بمجرد أن يتقاضوا راتبهم الأسبوعي”.وعلى النقيض تماما، يرى محدثنا أن الأجانب الإفريقيين يكدّون في العمل من دون انقطاع ولا يجدون صعوبات في مزاولة نشاطهم، كما أنهم يبيتون داخل الورشة وبالتالي يستيقظون مبكرا، مثلما هو الحال بالنسبة لمحمد الذي فرَّ من مالي قبل سنة، وهو شاب في 24 من عمره، أسود البشرة، طويل القامة وقوي البنية، يرتدي ثيابًا رثة. كان منشغلا في إعداد خليط الإسمنت والعرق يتصبب على بشرته البرونزية، مستمعًا إلى حديثنا مع البنَّاء، وهو يشير بأصابعه صوبه مادحا إياه: “عندما أدخل الورشة في الساعة الثامنة صباحا، أجد محمد قد انتهى من تحضير جميع مستلزمات العمل، هذا ما يفتقده شبابنا الجزائريون”.محمد، عصمان، مادو وغيرهم من الأفارقة الذين تحدثنا معهم يجدون الحياة أفضل بكثير بعيدا عن مخالب الفقر الذي كانوا يعيشونه في ديارهم تحت وطأة الحرب ودويّ القنابل والدماء، بغض النظر عن مشقة العمل وظروف الإقامة القاسية داخل ورشة البناء.اقتربت “الخبر” من غرفة نوم هؤلاء أسفل العمارة ووقفت عند مشهد مؤثر، كان مرقدا يضم العشرات من الأسِرّة المنتصبة داخل تلك الغرفة الكبيرة، رائحة رماد النيران التي تحميهم من برد الشتاء عكَرت جو الغرفة وجعلته مقززا.يجلس باكاري، صاحب 29 سنة، داخل الغرفة بجنب النار الموقدة التي لا يكاد يبتعد عنها، كي يدفئ رجله المصابة التي أجرى عليها عملية جراحية بمستشفى الدويرة في العاصمة، بسبب حادث وقع له أثناء العمل، وما إن فاتحناه أطراف الحديث، حتى استرسل الشاب القادم من غينيا كوناكري يسرد لنا معاناته بلهجته الإفريقية “أجريت عملية جراحية منذ شهرين بسبب الإصابة التي أجبرتني على المكوث من دون عمل، وجعلتني أدرك أن لا أحد ينظر إليك هنا، سوى رفاقي في الغرفة الذين يشتركون شهريا بمبلغ ألف دينار لاقتناء مستلزماتهم من الأكل”.الانضباط والالتزاموفي تيبازة، لم يعد بعض المهاجرين الأفارقة بحاجة إلى التسول لكسب القوت، فالكثير منهم يطرق أبواب الورشات العمومية والخاصة بل حتى أبواب المنازل، لطلب العمل اليومي أو الشهري، وأثبت الكثير منهم فعالية عالية وقدرتهم على إنجاز الأشغال الشاقة، وفقا لقواعد الانضباط المطلوب والالتزام بمواقيت العمل بما في ذلك التقيد بالتعليمات.في جولة ميدانية قادتنا إلى بعض الأحياء التي تأوي عمال بناء أفارقة بالجزء الشرقي لتيبازة، التقينا بمواطن يدعى “حسان. ك”، يشرف على بناء فيلا من 3 طوابق، وبمحاذاة ورشته أكوام من الرمال والحصى تحيط بها مجموعة من العمال ذوي الملامح واللهجات الإفريقية، اتضح لنا أنهم عمال بتلك الورشة المتوسطة.جمعنا حديث مع صاحب المنزل بخصوص توظيفه لهؤلاء الأشخاص، فاعترف لنا بأنهم “عملة نادرة في الأشغال المتعبة”، مبررا كلامه بأنهم “ملتزمون جدا بساعات العمل، وقلما يتأخرون في مواعيد الالتحاق بالورشة، كما يطبقون التعليمات بحذافيرها، ولا يمتنعون عن مواصلة بعض الأشغال في ساعات المساء في الحالات الطارئة دون كلل أو ملل، عكس الكثير من شباب اليوم الذي غرق في الكسل”.وأضحى الكثير من المواطنين يبحثون عن العمال الأفارقة والسوريين، خصوصا في أشغال الحفر وتنظيف الأقبية وبعض أعمال تصريف المياه المنزلية والتشجير وأشغال إزالة النفايات الصلبة، وغيرها من المهمات التي تتطلب قوة جسدية ومواظبة دائمة.كما أصبح بعض المقاولين يبحثون عن الأماكن التي تأوي هؤلاء المهاجرين من أجل نقلهم إلى ورشات البناء وتأمين المبيت لهم هناك، خصوصا في الأوقات التي تشتد الحاجة للعدد الكافي من اليد العاملة، حيث قال السيد “محمد خ« إنه مشرف على مشروع 130 مسكن اجتماعي وسجل تأخرا في الإنجاز لمدة تقارب السنة، وأرجع ذلك لنقص اليد العاملة المتعددة المهام “مانوفر”، حيث اهتدى مؤخرا إلى استغـــلال الأفارقة في أشغال الخرسانة والمساعدة اليدوية في رفع مواد البناء وجميع العتاد الخاص بشتى أنواع الأشغال الثانوية بما فيها الطلاء وغيرها، ووجد في العمال الأفارقة متنفسا سيمكنه من تدارك التأخر، فيما أكد أيضا أنه يوظف هؤلاء خلسة عن الجهات الرسمية كما هو الحال بالنسبة لبعض المقاولين ببلديات مراد، بورڤيڤة، القليعة بواسماعيل وفوكة، وشدد في ختام حديثه على أنه يدفع لهم مستحقاتهم أسبوعيا.ورغم الدور الحاسم الذي يلعبه هؤلاء في دفع وتيرة الإنجاز بمشاريع عمومية إستراتيجية، إلا أن مصالح الرقابة تطارد أحيانا رؤساء بعض الورشات الكبرى، الذين يشغلون عشرات الأفارقة ويدفعون لهم نقدا لكن دون التصريح بهم.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات