+ -

تحولت مواقع التواصل الاجتماعي بالنسبة للجزائريين إلى فضاء ينشرون فيه أدق تفاصيل حياتهم، فما كان بالأمس القريب “مسيّجا” يندرج في خانة الأسرار والمشاكل العاطفية، أضحى اليوم متداولا بين الأصدقاء، وهو حال رميساء التي لجأت إلى جدارها لتنفجر غضبا بعد خصام مع خطيبها، ووالد أفرغ آلامه وأحاسيسه بعد زفاف ابنته..

استيقظ عماد صباحا ومكث في فراشه، تلمس محيطه وعينياه لاتزالان تحملان آثار النعاس باحثا عن هاتفه الذكي، وبمجرد أن عثر عليه راح يقلب في صفحة الخيارات مفتشا عن تطبيقة “فايسبوك” في لوحة الخيارات.. “ليدشن” يومه بأخذ صورة على طريقة “سيلفي” ويدرجها على جداره ويعنونها بتحية صباحية متبوعة برسوم متحركة في شكل شخص نعسان في إيحاء بأنه استيقظ لتوه.يواصل عماد جرد برنامج يومه، فإن كان على سفر يدوّن انطباعاته ويدرج صورا له بالمنطقة، أو مريضا فينقل صرخاته وآهاته على الهواء مباشرة وإن كان أمام طاولة الأكل فيلتقط صورا للأطباق، وهكذا يقضي يومه مرتحلا بين الافتراض والحقيقة.هكذا تمضي أيام عماد، يشارك أصدقاءه الافتراضيين أدق تفاصيل يومياته، ويقاسمهم أحاسيسه وانطباعاته، فانكمش عالمه الخاص ولم يبق له ما يخفيه عن الناس، بعدما أزاح الغطاء عن طبيعة شخصيته وعن ما يلفها من غموض وأسرار، ليحاول جاهدا استدراك الوضع لاسترجاع ذاته “المتلاشية” في فضاء لا حدود له.يبكي ابنته العروس “فايسبوكيا”لم يجد أحد الآباء في ليلة زفاف ابنته الوحيدة سوى الموقع الأزرق للبوح بما يختلج صدره من آلام وهواجس وهو يودعها في آخر يوم لها بالمنزل، فقذف بأحاسيسه الممزوجة بين الحسرة على الفراق والفرح بالزفاف في شكل حوار مكتوب على حائطه بالفضاء الأزرق تعلوه صورة لأب يعانق ابنته ويبكيان، وقال فيه الأب: “ابنتي لا تنسي”، لتجيبه البنت مستفسرة عما يتحدث بالضبط، هنا فاضت أحزانه وقال.. “لا تنسي عزيزتي أني الشخص الأول الذي أحبك في هذه الحياة”.الخلاف مع الخطيب على العلنضاق الواقع بما رحب برميساء ذات جمعة وانقبض صدرها حزنا وغضبا بعد خصام مع خطيبها، ولم تجد سوى الفضاء الأزرق لتنفجر فيه بائحة بكل أسرارها، كاتبة على حائطها “إني منهارة عاطفيا ولم أستطع فهم الرجال كيف يفكرون” مرفوقة بصورة تظهر فيها امرأة بفستان أبيض تتطلع إلى الأفق بعينين تملأهما الدموع وذيلتها بـ«مُلصق إلكتروني” ممثل في وجه غاضب ملوّن بالأحمر تعلوه قطرات العرق في إيحاء بأنها تغلي غضبا، وهي رسالة إلى الطرف الآخر تلومه فيها على تصرفاته، غير آبهة بأصدقائها الذين تهاطلوا عليها بعشرات التعاليق، محاولين استقراء الوضعية أكثر بالتأويل والتحليل وحتى استشراف المستقبل.الرجل اللغز كشفه “الفايسبوك”ظل أمين ابن حي باب الوادي في العاصمة شخصا غامضا بالنسبة لجيرانه، وعصيا على إدراك طبعه، فلا مهنته معروفة ولا توجهاته الدينية والفكرية ولا حتى مواقفه السياسية وميولاته العاطفية، غير أن أحد الفضوليين من سكان الحي قرر اختراقه وفك “شيفرات” أمين عبر الـ”فايسبوك”.راح صاحبنا يفتش عن أمين في الفضاء الأزرق، ليتوصل إلى تطابق من حيث الاسم واللقب مع جاره أمين، ولم يتردد في إرسال دعوة لقبول صداقته، وما هي إلا ساعات حتى تلقى الموافقة بأن يصبح صديقا لصاحب الحساب.أسّس الجار “الجاسوس” علاقة افتراضية مع أمين مستعملا حسابا باسم مموه، وتقمص دور إطار يشتغل بإحدى الوزارات عثر على حسابه صدفة أثناء إبحاره في الشبكة العنكبوتية، وأعجب بصورة الـ”بروفايل” ولم يتردد في إرسال دعوة للصداقة، كانت تدشينا لحديث افتراضي أسهب خلاله أمين في سرد ما خفي عنه وما ظهر والجهر بطبيعة عمله، ومواقفه السياسية وطبائعه الحياتية، وبهذا روى الجار الجاسوس عطش الفضوليين من أبناء حيه التواقين لمعرفة من هو أمين اللغز.نشرة أخبار “فايسبوكية”لخص أحد الشباب نظرته للأنترنت متحدثا إلى صديقه في إحدى الحافلات بالعاصمة، أن كل ما نفعله في حياتنا الواقعية ينتهي في نشرة أخبار “فايسبوك”، بل إننا كثيرًا ما كنا نخفي سلوكات وحوادث أمسينا نقذف بها في مواقع التواصل بغرض المشاركة، وتساءل كم مرة التقطنا صورا أو تشكّلت في أذهاننا تصورات دون أن نفكر في نشرها على صفحات الأنترنت في إطار الإفصاح عن موقف أو التعليق على حدث؟ وقاومنا ذلك الدافع الخفيّ الذي يجعلنا نتردد بين النشر من عدمه.وأردف الشاب مستهزئا: “أحيانا أجد نفسي منقادا إلى مشاركة أصدقائي “الإلكترونيين” كل تفاصيل حياتي، دون أن أفكر في إخفاء ما نعتقد خارج الأنترنت بأنه من الخصوصيات الشخصية ويحظر تداوله في فضاء مفتوح على مصراعيه للغرباء والأجانب.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: