+ -

إذا كان حلم الكثير من النساء الحاملات للشهادات الجامعية وشهادات التكوين المهني والتمهين، الحصول  على منصب عمل في أي قطاع  كان وتحت أي صيغة من صيغ التشغيل المعمول بها في الجزائر، فإنه  وعلى العكس تماما بالنسبة للنساء العاملات اللواتي أصبح المكوث بالمنزل لديهن بمثابة  الحلم الذي يسعين لتحقيقه، وندِمن على التفريط فيه منذ سنوات طويلة.بالمدارس، مما يعني بالضرورة  مزيدا من المشاغل والمتاعب المضافة لمتاعب العمل، كتعب البيت وواجب تدريس الأولاد لدرجة إحساسها بأنها تعمل 24 ساعة متواصلة في اليوم.  وتضيف بأن  هذه الحالة من الضغط تزداد حدة عند اقتراب الامتحانات نتيجة الاستيقاظ المبكر لتحضير متطلبات الأبناء، والنوم بعد الانتهاء من جميع الأعباء المنزلية أي بعد نوم جميع أفراد الأسرة لدرجة نومها في هذه الفترة لأربع ساعات في اليوم فقط، في حين يكون يوم عملها في الأيام العادية  بين  شغل المنزل والعمل في المؤسسة منذ الخامسة صباحا إلى غاية الـ11 ليلا.وتسرد السيدة فايزة قصتها المأساوية مع العمل، بالتطرق إلى إصابتها بأمراض على مستوى الظهر نتيجة الوقوف طويلا أمام الآلة، كما أن ميلاد الطفلة الرابعة في الحياة الأسرية لها صعّب من مأمورية توفيقها بين العمل من الثامنة صباحا إلى غاية الرابعة مساء والعناية بأربعة أطفال، بما في ذلك الإعداد لوجبات الغذاء، وهو ما تحملته رغم ذلك، إلا أن القطرة التي أفاضت الكأس، حسبها، تعود إلى تفرّق الأبناء بين المربية حينا وبيت أمها أحيانا في ظل تواجدها طيلة الوقت خارج المنزل، مما جعلها تتوقف عن العمل بشكل نهائي بعد أن فكرت في الاستقالة لأكثر من ألف مرة بسبب المعاملة والسياسة الإدارية القاسية التي تتلقاها. وبعد ستة أشهر من التوقف عن العمل، تقول السيدة فايزة إنها لأول مرة منذ 20 سنة تحس بالارتياح والرضا مقارنة بالسابق، فضلا عن شعورها بالحرية.المعادلة لا تتحققالأستاذة الجامعية “ص.ل” وبعد طرح السؤال عليها، أجابت مباشرة بعبارة قالها أحد المشايخ مرة وهي أن “اليتيم ليس من ماتت أمه، إنما اليتيم من تعمل أمه”، وبحسرة كبيرة تتأسف لحال الكثير من العاملات، إن لم أقل معظمهن ممن ضحيّن بأبنائهن من أجل العمل، فضلا عن إشارتها لمحدودية قدرة المرأة الجسدية والنفسية مهما كانت كبيرة، وهو السبب الذي فسرت بها الأستاذة معاناة معظم النساء العاملات من أمراض كثيرة مقارنة بالماكثات في البيت بدليل ما أثبتته الدراسات العلمية الطبية والصحية الكثيرة.وحسب المتحدثة، فإنها تحاول بأن لا يعارض عملها دورها كأم وزوجة وربة بيت، لكن هذه المعادلة لا تتحقق دون تضحيات، وفي معظم الوقت تضحي براحتها وبصحتها وأفكارها رغم أنها لا تعمل طيلة أيام الأسبوع وكذا العطل الموسمية. أما السيدة حياة، الموظفة بأحد الإدارات العمومية وأم لثلاثة أطفال، فترى بأن أهم الأسباب التي دفعتها لتقديم طلب التقاعد النسبي، يتمثل في عدم القدرة على التوفيق بين العمل والبيت وكذا الشعور الدائم بالذنب والتقصير في حق البيت الزوجي والعمل وهو ما يرهق كلا من التفكير والبدن. كما أن العمل منعها التفكير في  إنجاب المزيد من الأطفال بسبب معرفتها المسبقة بالتفريط في تربية والعناية بالأطفال الجدد،  شأنهم في ذلك شأن إخوتهم السابقين، حيث ربطت قضية إنجاب طفل بالاستفادة من التقاعد النسبي خلال السنة المقبلة.كريمة “ترضخ” ووفاء تفضّل مواصلة “الجهاد”وتفضّل الكثير من النساء العاملات العودة إلى دفء الأجواء العائلية والتفرغ كليا للشؤون الداخلية، وهو حال السيدة “ب. كريمة” البالغة من العمر 36 سنة، والتي ارتأت التضحية بمنصبها في مؤسسة تأمينات عمومية بسيدي بلعباس لإعادة ربط الصلة مع الأمومة، التي تقول بأنها افتقدتها لفترة بالنظر للوقت الطويل الذي كانت تقضيه في عملها مرغمة.تقول محدثتنا في هذا الشأن: “لقد فكرت مليا في الأمر قبل اتخاذي قراري النهائي، فقضائي أوقاتا طويلة خارج البيت خلال خمسة أيام من الأسبوع وبعيدا عن أطفالي رنيم، أسامة وأريج، جعلني أحس ببداية افتقادي لتلك الروابط الروحية مع أبنائي كأم، كما لا أخفي عليكم بأن إصرار زوجي على ضرورة أن أولي أهمية أكبر للأسرة، كان له تأثير مباشر على قراري، خاصة وأن عائداته الشهرية من الأموال تكفي لسد حاجياتنا الأسرية”.وكانت كريمة قد استعانت منذ أن رزقها الله برنيم، بمربية عملت على التكفل التام برضيعتها، قبل أن يأتي الدور على أسامة وأريج “اللذان ارتأيت التكفل بهما بنفسي بعد أن وقفت على حقيقة الارتباط الوثيق بين ابنتي الكبرى والمربية مقابل نفور نسبي مني، مما جعلني أجزم بأن الأم الحقيقية هي الأم الراعية بغض النظر عن الروابط الأخرى”. وقد فهمنا من خلال طريقة تحدث السيدة “ب. كريمة” إلينا بحقيقة إحساسها بنوع من الإهمال تجاه فلذات كبدها سابقا، وهو ما جعلها تسارع لاستدراك الأمر وعدم تكرار تجربة ابنتها الأولى، مما لا ينطبق على السيدة “ب. وفاء” التي لا زالت تفضّل مواصلة “الجهاد” كما تسميه من خلال بذلها مجهودات إضافية حتى توفّق بين عملها اليومي كرئيسة مصلحة بإحدى الإدارات العمومية وتربية أطفالها الثلاث رغم تفكيرها العميق في العودة إلى أحضان البيت نهائيا.تأنيب الضميرتعتمد “ب. وفاء”، وهي سيدة في منتصف العقد الثالث من العمر، كثيرا على المساعدة التي تقدّمها لها والدتها، من خلال استضافة هذه الأخيرة للأبناء الثلاثة خلال خمسة أيام من الأسبوع ومع حلول كل صبيحة “مع أن ذلك لم يعد يشعرني بالراحة النفسية، خاصة وأن تربية أبنائي الجيدة كانت من بين أهدافي الأساسية من وراء الارتباط” كما تقول “مما يجعلني في بعض الأحيان أحس بتأنيب الضمير رغم أني لا أشك ولو للحظة في إمكانية تقصير أمي في توفير كل ما يحتاج إليه أبنائي في غيابي”.وكانت محدثتنا قد أقرّت بانتهاجها سابقا تجربة جلب إحدى المربيات إلى البيت أملا في رفع ذلك الضغط الذي كان مفروضا على والدتها “إلا أن اقتناعي التام بالفشل الذريع لتلك التجربة ومن كل النواحي، جعلني أفكر بجدية في العودة النهائية إلى البيت، خاصة وأنني كنت أحتفظ بتلك المربية بمسكني حتى في أوقات وجودي لأقف بأم عيني عما يمكن أن تقدمه من خدمات لأبنائي أو بالأحرى لأتجسس عليها” كما قالت. وتصف “الثلاثينية” التربية الجيدة للأبناء خلال فترات الطفولة بـ “الشيء المقدّس”، إلا أنه صراحة لا أجد مانعا من مواصلة عملي اليومي حتى أغطي حاجياتي وحاجيات البيت في بعض الأحيان مناصفة مع زوجي”، كما قالت، في ظل غلاء المعيشة “لكن دون إهمال الأبناء الذين نعمل على وضعهم في أحسن الظروف بمساهمة كل المحيط العائلي” ختمت محدثتنا قولها.الأستاذة في علم الاجتماع نسيسة فاطمة الزهراء“إهمال الأولاد جعل المرأة تفكر في الاستقـرار المنزلي” اعتبرت الأستاذة في علم الاجتماع، نسيسة فاطمة الزهراء، بأن الرجل في الآونة الأخيرة أصبح يرفض عمل المرأة كونها تهمل المنزل والأولاد، مما جعلها تفكّر في الاستقرار النفسي لها ولأولادها من جهة، وإرضاء لطلب زوجها من جهة ثانية. والمكوث في المنزل حسب الأستاذة، من شأنه حماية المرأة من مشاكل عديدة، خصوصا إذا كان عملها مجهدا ويأخذ منها وقتا طويلا طيلة أيام الأسبوع، حيث عددت مجموعة من المشاكل  وعلى رأسها شجارها مع الزوج حول قضية الإهمال الأسري للأبناء، وحتى الزوج بما أنها تخرج في وقت مبكر صباحا وتدخل في وقت متأخر مساء، يجعلها تبتعد كثيرا عن أبنائها وإهمالها لواجباتها. وحسب الأستاذة الاجتماعية، يسبب مشاكل سوسيولوجية أخرى، مثل انحراف الأبناء نتيجة عدم رقابة الأهل لهم، خاصة الأم التي يجب أن تكون المراقب الرئيسي لكل تصرفات أبنائها، وكذلك بسبب تدني المستوى الدراسي للأبناء الذي ينخفض، لأن الأم هي من تربي وتعلّم في نفس الوقت، وكل هذه الأسباب أدت ببعض العاملات المكوث بالبيت على حساب عملها، وهذا هو الأهم حسب ذات المتحدثة.مديرية التربية لقسنطينة523 أستاذة قدّمن طلبا للتقاعد المسبقتشير آخر إحصائيات مديرية التربية لولاية قسنطينة، أن عدد النساء الراغبات في الحصول على التقاعد المبكر وقدمن ملفات للخروج قبل شهر أوت من السنة الجارية، بلغ  523 موظفة في الأطوار التعليمية الثلاث. وحسب بعض ممثلي النقابات وإطارات مديرية التربية بقسنطينة، فإن أسباب تهافت النساء العاملات بقطاع التربية على التقاعد المسبق، راجع إلى عدة أسباب، أولها قرار إعادة النظر في منظومة التقاعد التي أعلن عنها وزير العمل، إلى جانب بعض الظروف غير المباشرة، على غرار تغيّر مفاهيم الإصلاح التربوي بصفة عامة وعدم مواكبة متطلبات الإصلاح من طرف الجيل الجديد، في حين أكدت نقابات التربية، أن المرأة العاملة والأستاذة أصبحت تجد صعوبة بالتحكم في سلوك التلاميذ، بسبب متغيرات أثّرت على العمل التربوي، حيث تجد المرأة نفسها مسؤولة على عدد من التلاميذ والذين تقيّدوا بمظاهر العنف،  وأمام مسؤولية الأطفال والمنزل من جهة أخرى، حيث أصبح الأمر يتجاوزها على الصعيدين وتضطر للخروج من أجل إنقاذ أحد الشقين.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: