+ -

“الجزائر من الصحراء إلى البليدة، هناك ذهبنا للعب دور الجندي الصغير.. شرفات تجفف فيها الأغطية والمناشف مثل إيطاليا”، كلمات من أغنية الجزائر للمغني الفرنسي سارج لاما التي أطلقها سنة 1975، سنوات بعد إنهائه الخدمة العسكرية في مدينة البليدة. ويبدو أن منظر الغسيل في الشرفات كان من بين المشاهد التي علقت في ذاكرته، ولا يزال هذا المشهد يصنع ديكور العاصمة بعد عقود.كلمات هذه الأغنية التي يحفظها الجيل القديم عن ظهر قلب، ربما استفزت الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد. ففي عهده، صدرت تعليمة تمنع نشر الغسيل في الشرفات، وخاصة في الشوارع الكبرى، ويتذكر العاصميون جيدا الطريقة الصارمة التي كانت تتعامل بها الشرطة مع كل مخالف: “فبمجرد وضع شيء على الشرفة، تسمع تصفيرات الشرطي الذي لا يتوانى عن الصعود إلى الشقة لتغريم صاحبها بمخالفة”، يقول العم سعيد، ابن حي باب الوادي.وفي جولة قادتنا إلى كبرى الشوارع في العاصمة، توقفنا على مشهد يشوه حقا ديكور العاصمة، من ديدوش مراد والعربي بن مهيدي.. إلى تليملي والأبيار، وصولا إلى باب الوادي، فرش وأغطية وزرابي بكل الألوان والأحجام، ترسم لوحة فسيفسائية للعاصمة... لكن ليس بطريقة جمالية طبعا.يتأسف العم محمد الذي التقينا به بصدد اقتناء باقة ورد من محل لبيع الورد في أعالي حي ديدوش مراد، أخبرني أنه يقيم في “لاري ميشلي” سابقا منذ الاستقلال، وراح يتحسر على إهمال العاصميين لمحيطهم والديكور العام لإحيائهم، خاصة بالنسبة للعمارات التي تقع في الشوارع الرئيسية “يا ابنتي.. اليوم منظر الحي آخر اهتمامات السكان. أتذكر في الماضي، خاصة مع نهاية السبعينات، وكذا في سنوات الثمانينات، كيف كان في كل عمارة مسؤول يسهر على نظافة العمارة، يقف على متابعة تقيد السكان بشروط تسيير الملكية المشتركة”، وأضاف المتحدث أن السكان كانوا يلتزمون بعدم نشر الغسيل في الشرفات، خاصة وأن الأمر يكلفّهم دفع غرامة مالية.لكن أين كان العاصميون وقاطنو العمارات في الشوارع الرئيسية ينشرون غسيلهم؟ سؤال يتبادر إلى أذهاننا بالتأكيد، تجيبني سيدة في عقدها السادس التقينا بها في سوق “كلوزال” بوسط العاصمة “في بيت الصابون يا ابنتي في سطح العمارة، كانت هذه الغرف مخصصة لنشر الملابس، لكن بعد العشرية السوداء وانفلات الأمور تحوّلت هذه الغرف إلى مساكن للكثير من العائلات”. سألت محدثتي إن كان ترحيل العائلات القاطنة في أسطح العمارات، في عملية الترحيل الأخيرة التي شهدتها العاصمة، سيعيد السكان إلى استغلال هذه الغرف، ابتسمت محدثتي “يا ابنتي مانكذبش عليك.. نحن شعب لا يفهم إلا بالبروسيات، تغريم المخالفين هو الشرط الوحيد الذي يجعل السكان يلتزمون”.تركت محدثتي وأنا أسير في شارع ديدوش مراد بالقرب من مخرج المترو القريب، استوقفني شيخ يبدو في عقده السادس بصدد قراءة صحيفة باللغة الفرنسية، سألته عن الموضوع، فرد دون تردد “يا ابنتي.. نشر الغسيل آخر مشكلة يمكن الحديث عنها بالنسبة للمحيط العام في هذه الأحياء التي يفترض أنها راقية، هناك من يضع خردواته في العمارات، وآخرون مزهريات إذا سقطت تتسبب في كارثة، وبعض العمارات خطر على حياة سكانها ويمكن أن تسقط السلالم في أي لحظة، والسكان ينتظرون فقط تدخل البلدية للقيام حتى بأبسط التصليحات التي يمكن للسكان القيام بها”.وقبل أن يكمل محدثي كلامه، قاطعنا سيل من المياه سقط من إحدى الشرفات، وكاد يبللنا “وتحدثيني عن نشر الغسيل! عندما يتعلم هؤلاء ثقافة العيش في المدينة، يمكن أن نتحدث عن إقناعهم بعدم نشر الغسيل في الشرفات والمحافظة على جمال المحيط”.رئيس بلدية الجزائر الوسطى، عبد الحكيم بطاش، لـ“الخبر”“غسالات جماعية للقضاء على النشر العشوائي للغسيل” كشف رئيس بلدية الجزائر الوسطى بالعاصمة، عبد الحكيم بطاش، أنه سيلزم سكان العمارات بشراء غسالة من حجم كبير ذات استعمال جماعي، حيث تم تطبيق الإجراء بـ 3 عمارات بشارع العربي بن مهيدي، والعملية مستمرة إلى غاية تعميمها على الأحياء الرئيسة للبلدية.كما أشار إلى أن مصالح الولاية، وبالتنسيق مع مصالح بلدية الجزائر الوسطى، باشرت منذ أزيد من سنة، عملية ترميم أزيد من 300 بناية بـ 10 أحياء رئيسية بتراب البلدية، هدفها القضاء على “المظاهر السيئة” التي شوهت واجهات العمارات.وقال عبد الحكيم بطاش، في اتصال بـ“الخبر”، أمس، إن مصالحه تنظم حاليا حملات تحسيسية بالأحياء الرئيسية للبلدية، خاصة بالعمارات التي انتهت عملية ترميمها، على غرار شوارع عسلة حسين وزيغوت يوسف والعربي بن مهيدي وكريم بلقاسم، وشارع محمد الخامس، وشوارع أخرى، من أجل إعادة الجانب الجمالي لهذه البنايات التي فقدته مع مرور السنوات، مشيرا إلى أنها قد تستغرق وقتا طويلا، كون مثل هذه المظاهر تجذرت في سكان البلدية.وأوضح بطاش أن العملية في القديم كانت تتم في “بيت الصابون” المخصصة لغسل الملابس ونشرها بالسطوح، لكن مع شغل بعض العائلات لهذه الأماكن، أصبحت العائلات الأخرى تفضل نشر غسيلها بالشرفات والنوافذ، الأمر الذي أعطى صورة سيئة لهذه العمارات والأحياء ككل.وعن الإجراءات التي اتخذتها مصالح الولاية بالتنسيق مع مصالحه، أشار محدثنا إلى أن مصالحه أعطت أوامر بمنع شغل الأسطح والأقبية من جديد وجعلها للاستعمال الجماعي، كما عينت أعوانا من البلدية للقيام بعملية تحسيس ومراقبة، كل 48 ساعة، التي قال إنها قد تستغرق وقتا طويلا، كون هذه المظاهر تجذرت في مجتمعنا، الهدف منها توعية المواطنين بثقافة نشر الغسيل. وفي السياق ذاته، سيتم تعيين مسؤول على هذه العمارات بعد الانتهاء من ترميمها، يسهر على تنبيه سكانها إلى هذه المظاهر.لم يخصص لها مكان عند تصميمهالا مكان لنشر الغسيل في الأحياء الجديدةتفتقد أحياؤنا للمسة الجمالية والذوق الفني، ليس فقط لأنها مباني تبدو كعلب للسكن أو مراقد فقط، وتحمل عناوين بالأرقام شيدت لاستيعاب الكم الهائل من طالبي السكن، بل لأنها أيضا أصبحت واجهة لاستعراض ما تحويه خزانة ملابس الجزائريين في ديكور غير لائق يشوه المظهر الجمالي لمدننا.فإذا كان مهندسو البنايات من الحقبة الاستعمارية، قد فكروا في تصميماتهم في مكان لنشر الغسيل، وهو ما نجده في جميع البنايات “الكولونيالية”، التي تحوي غرفة خاصة بالغسيل في سطح البناية، وتعد ملكية مشتركة بين جميع السكان، الأمر ليس كذلك بالنسبة للأحياء السكنية الجديدة التي شيدت بعد الاستقلال، وفي مختلف الصيغ.فسواء أكانت السكنات من صيغة الاجتماعي أو التساهمي وحتى “عدل”، لا مكان لنشر الغسيل إلا الشرفة، فالملابس والأغطية والزرابي أصبحت ديكورا يزين واجهات العمارات، في مشهد يشوه المظهر الحضاري لمدننا، لكن لا يمكن لوم السكان، لأن الواقع فرض ذلك في غياب البديل.وهو ما وقفنا عليه في العديد من الأحياء الجديدة في العاصمة، كالعاشور وأولاد فايت وعين النعجة، وغيرها من الأحياء في العاصمة والولايات.وإذا تحدثت إلى السكان في الموضوع، وأشرت إلى إمكانية تغريمهم في حال قاموا بنشر الغسيل في الشرفات، يجيبون بتهكم، بأن ما باليد حيلة: “بالكاد “حشرنا” الأثاث في هذه الشقق الضيقة، فكيف يمكن الحديث عن منعنا من نشر الغسيل؟ وجهوا تساؤلكم لمن صمم هذه العلب”.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: