بويرة الأحداب.. ظلمتها الجغرافيا وقسا عليها الزمن

+ -

يقولون “يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر”.. عبارة تحققت ببلدية بويرة الأحداب شمال ولاية الجلفة. البلدية الفتية المنبثقة عن التقسيم الإداري في ثمانينيات القرن الماضي، وهي أيضا البلدية الأقدم في التقسيم الإداري الفرنسي خلال الاحتلال. مثلما جمعت هذا التناقض الصارخ بين الفتوة والقدم، جمعت بويرة الأحداب تناقضات أخرى بين البلدية الأغنى من حيث النشاط الاستثماري والفلاحي، والأفقر من حيث الميزانية.. وهي البلدية التي تضم أعرق الزوايا بالمنطقة، راسلها الأمير عبد القادر، واحتفت بالشيخ محمد الطاهر آيت علجت، مثلما تعلّم بها أول طيّار جزائري، وتجمع إليها الشعراء في التظاهرة الثقافية “برنوس الأحداب”، وهي نفسها التي سجلت حادثة اختطاف الطفل زكريا التي قضت مضاجع السلطات الأمنية والعسكرية، مثلما هزّت حادثة دخول رئيس مجلسها الحالي السجن وخروجه بالبراءة التامة.. وهي التي كانت تصنع الحدث الوطني بأبطال العدو الريفي والسباحة لكنها تفتقر اليوم لمسبح! يصفها أهلها بالبلدية الصغيرة، ولكنها كبيرة في صناعة الحدث والحديث من حين إلى آخر، الأمر الذي دفعنا إلى زيارتها والوقوف على التميّز الذي يطبعها.رحلة التاريخ والجغرافيا.. من بلدية قلتة السطل إلى بويرة الأحدابيكاد المهتمون بتاريخ مدن ولاية الجلفة يجمعون أن بلدية بويرة الأحداب لم ينصفها الزمن، لما تزخر به من تاريخ عريق وخصائص جغرافية وطبيعية وتراث حضاري وثقافي كبير، ووقفات ثورية مضيئة، ومؤهلات اقتصادية متنوعة، لكنها لم تنل حقّها، بل دخلت في طي التجاهل والنسيان من الكثيرين، واعتبرها السواد الأعظم من البلديات الصغيرة والفقيرة الفتية التأسيس والنشأة، رغم أنها أقدم من البلديات الكبرى المجاورة لها، والتي خطفت منها كل الأضواء لسبب بسيط هو أن جغرافية موقعها تزحزحت عن الطريق الوطني رقم 01 الذي كان على جنباتها، وتغيّر اسمها من قلتة السطل إلى بلدية بويرة الأحداب، كما سرد لنا تفاصيل تاريخها رئيس بلديتها نوح ابراهيمي، فالبلدة ضاربة في التاريخ كتجمع سكاني أنشئ أول الأمر بمنطقة قلتة السطل خلال القرن 18، ووصل إليها الفرنسيون منتصف القرن 19 وبنوا بها مركزا للتعذيب، ومراكز أخرى لأغراضهم الإدارية والعسكرية ما تزال قائمة إلى اليوم، وأضحت منطقة قلتة السطل اليوم فرعا بلديا تابعا لبويرة الاحداب، رغم أن السلطات الفرنسية أسّستها كبلدية منذ سنة 1910 خلال الاحتلال، وكانت تابعة لإقليم التيطري، وتشرف على تسيير شؤون كل التجمعات والمناطق المجاورة من حدود دائرة عين بوسيف بولاية المدية، فقد كانت تابعة لها إلى حدود إقليمَي حاسي بحبح وعين وسارة. وفي ظل الأوضاع الاحتلال، وخاصة مركز التعذيب الذي يطلق عليه اسم “راندون” الذي بُني سنة 1852 واشتداد تضييق الخناق على السكان، بدأ بعضهم ينزح على بعد كيلومترات إلى الجهة الشرقية، خاصة مع وجود زاوية بجوار المنطقة قصدها طالبو العلم ولاجئون هروبا من تضييق فرنسا، ومن ظروف القهر والفقر والحاجة إلى الماء على وجه الخصوص، وبنوا تجمعا سكنيا ثانيا باعتبار أن الزاوية كانت بها عين تسمى “عين أقلال”، وتوسعت تلك الزاوية مطلع سبعينات القرن 19، وتوسع البناء والسكن بالقرب من الزاوية على بعد نحو 3 كلم فأصبح ذلك المحيط نواة جديدة لتجمع سكني ثالث أطلق عليه اسم بويرة الأحداب، فلفظ “البويرة” تصغير لكلمة بئر، وأما لفظ “الأحداب” فنسبة للعرش الذي أنشأ المنطقة وعمّرها وسكنها منذ مئات السنوات، فقالوا “بويرة الأحداب لتتحول إلى بلدية بعد التقسيم الإداري لسنة 1984، وأصبحت منطقة “قلتة السطل” ومنطقة “زاوية عين أقلال” مجرد مناطق تابعة للبلدية الجديدة التي تتربع على مساحة تقدر بنحو 37 ألف هكتار، وبها نحو 15 ألف نسمة، وعاملتها مختلف الإدارات على أنها فتية، رغم ما فيها من تاريخ قديم وما تزخر به من إمكانات اقتصادية هائلة واستثمار كبير وإنجازات رياضية وثقافية وتكريمات لشخصيات دينية واحتضانها لملتقيات وطنية وجهوية ودولية، فضلا عن أحداث أخرى فيها المؤلمة المظلمة وفيها السعيدة المشرقة.إمكانات اقتصادية واستثمارية كبرىعندما نسمع عن مؤهلات وإمكانات وأحداث وأحاديث وقعت أو تحققت ببلدية بويرة الأحداب، يصاب الإنسان بالاندهاش والتعجب بين ما كان وما هو كائن، تسمع عن بلدية بحجم ولاية من الجانب الإداري مطلع القرن العشرين تتراجع فجأة وتنتزع منها صفة البلدية بعد نزوحها للتجمع الثالث بعيدا عن الطريق الوطني رقم 01 ومنطقة قلتة السطل بنحو 15 كم، وتستعيد اسم البلدية سنة 1984 بعد انتظار طويل. ثم عندما يقف الإنسان على حجم الاستثمارات الموجودة في المنطقة، وفي مقدمتها 13 محجرة تحيط بالبلدية، خاصة على مستوى الجهة الجنوبية الغربية، وليست بالمحاجر الصغيرة بل الكبيرة لشركات وطنية مثل “كوسيدار” وأخرى دولية من إسبانيا تمتص اليد العاملة غير المؤهلة بالبلدية.ونحن في زيارتنا للبلدية صادفنا فرقة من العمال الأتراك بصدد تركيب آليات جد متطورة لمحجرة من المحاجر، وإلى جانب هذا هناك مشروع استثماري آخر انتهت به الإجراءات الإدارية يتمثل في وحدة صناعية لتركيب البناءات الجاهزة، بحيث تنتج في اليوم 10 وحدات سكنية تسهم في توفير 150 منصب شغل لشباب البلدية، حسب تصريحات رئيس البلدية نوح إبراهيمي، ومع هذا استثمار آخر لمركز مخزن جهوي للخضر والفواكه بمنطقة الصقيعة، يوفر أيضا نحو 150 منصب شغل، واستثمار لإنشاء مطاحن كبرى تنتج أنواع السميد، وإذا كان هذا في الجانب الصناعي فإن البلدية تتوفر على آلاف الهكتارات المستصلحة تنتج البطاطا وتعتبر الأولى ولائيا من حيث الإنتاج وتغطي حاجيات المنطقة، بما فيها الولايات الشرقية والشمالية طبعا، إلى جانب القمح والشعير وتربية الآلاف من رؤوس الماشية، وتوجد هذه المساحات على مستوى الجهة الشمالية الشرقية.إرث تاريخي وإنجازات ثقافية ورياضيةأما الجانب الروحي الثقافي، فإن البلدية بها أقدم زاوية على مستوى المنطقة ككل، يعود تأسيسها إلى سنة 1811 من طرف الشيخ خليفة بن بلقاسم، كزاوية متنقلة تنشر العلم وتساعد الفقراء وتصلح بين المتخاصمين، لتتطوّر إلى مصاف أكبر الزوايا على يد ثالث شيوخها المختار بن خليفة، وهو إحدى الشخصيات الدينية على مستوى العالم الإسلامي ككل، لأنه درس بجامع الزيتونة ثم بالأزهر، ثم بمكة والمدينة المنورة، وأجازه علماء كثيرون من مختلف البلاد العربية، ثم أصبح مدرّسا بالمدينة المنورة، ومدرّسا بزاوية نفطة في تونس، وتخرّج على يديه علماء كثيرون، وعاد إلى مسقط رأسه ليواصل بناء الزاوية ويشيدها ويجعلها مستقرة في مكانها الحالي، بتعميرها وبنائها بداية من سنة 1872 وعلى مدار 35 عاما، وكانت له مؤلفات ومخطوطات ورسائل من طرف الأمير عبد القادر ما تزال إلى اليوم تشهد بوقوف الزاوية معه في والدعم برؤوس الماشية والخيل وغيرها. ويقال هنا إن الزاوية كانت محطة للشيخ البشير الإبراهيمي وتحدث عنها في بعض كتاباته، كما كانت محطة علم لأول طيار جزائري بعد الاستقلال، آيت مسعودان مع والده، وأصبح وزيرا فيما بعد، وكرّمت الشيخ العلامة الجزائري محمد الطاهر آيت علجت، واحتضنت بالتنسيق مع جامعة زيان عاشور قبل أسابيع ملتقى دوليا حول الطريقة الرحمانية، رغم مرض شيخها الحالي بولنوار المدعو عبد الرحمن، ورغم قلة الإعانات والمساعدات وتدهور وضعيتها اليوم.وما سجلته البلدية من أحداث وإنجازات رياضية نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي، حيث كانت تضم أقوى المختصين في العدو الريفي من أمثال صبايحي الأبتر وآخين وقعوا أسماءهم في بطولات وطنية ودولية، وحتى في ميدان السباحة وكرة القدم، كان يحسب لفريق العدو الريفي ألف حساب، ليضيع هذا الرصيد الزاخر كله وتسير البلدية اليوم بمشاركة فريق في صنف الأصاغر في كرة القدم، وحتى في التظاهرات الثقافية ظلت بويرة الأحداب تحتضن طبعة “برنوس الأحداب” تخليدا لذكرى شاعرها القديم في الشعر الملحون بوزيدي سي الحسين الذي غنى له عميد الأغنية الصحراوية خليفي أحمد، حيث تستضيف كامل شعراء الولاية ويتنافسون بقصائدهم، ليتوج منهم شاعر واحد ببرنوس يطلقون عليه “برنوس الأحداب” أي العرش، وهذا على مدار 9 طبعات، من المنتظر أن تعود هذا العام تحت إشراف البلدية وتحتضنها الزاوية، وهي تظاهرة لا تنظمها كامل البلديات الأخرى بالولاية.محطات مؤلمة وفاتورة غاليةوإذا كان هذا من المؤهلات والإمكانات المتميزة، فإن في تاريخ البلدية وحاضرها محطات للذكريات المؤلمة فعلا، والأحداث المؤسفة التي تهز في كل مرّة الولاية بكاملها، وفي مقدمتها مجزرة بمنطقة وادي بوعيشة راح ضحيتها 51 شخصا، وقبلها في سنة 1995 تم حرق مصلحة الحالة المدنية وفيها السجلات ومعها بعض أعوان الحرس البلدي، بمن فيهم والد رئيس البلدية الحالي، وذلك سنة 1997. وعانى السكان في سبيل استرجاع السجلات بتنصيب لجان واستخراج تراخيص يقول رئيس البلدية إنها اقتضت مجهودات جبارة لإعادة الإنشاء سنة 2014، وهو ما لم يقع ببلدية أخرى بالولاية.ويضاف إلى الأحداث المؤلمة حادثة اختطاف الطفل زكرياء الذي لم يتجاوز السنتين من عمره، حيث قضت الولاية أياما عصيبة بحثا عن هذا الطفل، واستنفرت كل قوات الدرك الوطني مدة أسبوع، ليعثر عليه داخل بئر عمقها 7 أمتار مصابا بكسور، كانت سببا فيما بعد في قطع أصبعين اثنين منه. وإلى جانب هذا حادثة القبض على رئيس البلدية الحالي متلبسا بالرشوة، مثلما قيل وقتها، وزج به في السجن، وشهدت البلدية وقتها الاعتصام ونصب الخيم أمام مقر البلدية، مطالبين بالبحث والتحقيق والإنصاف، وتدخلت قوات مكافحة الشغب، وأصبحت الحادثة على كل الألسنة، لتظهر براءة الرئيس التامة بعد 6 أشهر، وأن الأمر كان “مؤامرة” مدبّرة ليعود إلى ممارسة مهامه من جديد.. ومع كل ذلك ظلت تعامل على أنها بلدية صغيرة وفتية وفقيرة.أمل في غد منصفبين ذلك الماضي العريق الزّاخر بالأحداث والإنجازات وهذه الذكريات المحزنة المؤسفة، تبقى بلدية بويرة الأحداب تأمل أن يُلتفت إليها بقدر حجمها التاريخي وعراقتها ومكاسبها وإنجازاتها، فميزانية البلدية وما يخصص لها من مشاريع تنموية تبقى تنتظر الأفضل مقارنة بإمكاناتها ومؤهلاتها، فهي تنتظر مسبحا للرياضيين، واستعادة مجدها الضائع في العدو الريفي، ومنحها حقها كبلدية عريقة كان من المفروض أن تكون ولاية، كما قال لنا رئيس بلديتها، لو أنها بقيت في تجمعها الأول بقلتة السطل، لأنها على جنبات الطريق الوطني رقم 01، فجنت عليها جغرافيا الموقع، لكنه لا ينكر مجهودات تم بذلها من طرف مختلف المجالس الشعبية البلدية المتعاقبة مع باقي السلطات. لكنها مهما ارتقت فلن توفي عراقة مدينة انتصرت للأمير عبد القادر، ودفعت فاتورة غالية في سنوات الجمر والدم، ورفعت لواء الولاية في المحافل الرياضية والأدبية والثقافية.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات