+ -

ظل لقاء الفنان اعمر الزاهي مُستعصيا على الصحفيين. حاول الكثيرون منهم مُحاورته، بيد أن محاولاتهم الحثيثة باءت بالفشل. كان من الصعب الظفر بحوار معه، باعتباره شخصية فنية مُميزة. أذكر أنني أرسلت الصحفي سعيد خطيبي لمحاورته سنة 2010، وكنت أعرف أني أرسلته في مهمة صعبة، بل مستحيلة. كنت متأكدا أنه سيعود بلا حوار، مثلما عاد الكثيرون من قبله، إلا أن سعيد حقق ما لم أكن أتوقعه أبدا. التقى الزاهي في حديقة براغ، وتكلم معه بشكل عادي عن الفن والحياة. في النهاية، أخبره أنه صحفي من "الخبر"، فرد الزاهي بأن الأمر لا يضره. لم يعد سعيد خالي الوفاض لحسن حظه، فكتب مقالا حواريا وضع له عنوان "زاهد في دير النسيان". وكان للموضوع صيت حسن بعد نشره. والحقيقة أن الزاهي لم يكن من ذلك النوع المغرور أو المتكبر أو المتعالي، بل كان إنسانا مختلفا. فضل الحياة البسيطة، المُترفعة، وأراد أن يكون خارج المؤسسة الرسمية. كان يعتقد أن كل الصحف ووسائل الإعلام عبارة عن أجهزة رسمية. ولم تكن مواقفه هذه نابعة عن نظرة سياسية، كأن يكون معاديا للسلطة أو شيئا من هذا القبيل، بل فقط لأنه أراد أن يكون مثل عامة الناس، فاختار حياتهم العادية، البعيدة عن التعقيد وما يجلب الشقاء. التصق ببساطتهم التي ترضى بالنزر القليل، ورفض أن يُغادرهم. كان أحد من هؤلاء البسطاء، فعبّر عن مكنوناتهم بعد تجربته مع كاتب الكلمات "محبوب باتي"، لينتقل بعدها إلى التراث الشعري الشعبي العريق، باحثا عن آفاق فنية جديدة تتماهى مع الحياة وتجاربها، فتحولت تجربته الفنية إلى مستوى الحكمة، فحاز على الاحترام والتقدير، لأنه أصبح يعبر عن حكمة الرجل الشامخ الذي يرفض النزول إلى المستوى الأدنى. لم يكن الزاهي ملكا أو أميرا، لكن لا شيء كان ينقصه. اختار حياة الزُهد، فرفض أن تغريه الحياة المادية، فلم تجذبه ملذاتها. كان يكتفي بما يجعله واقفا، لا يلمس سوى الأشياء التي حاز عليها بشقائه، وظل يرفض الهدايا والهبات، وهو يعتقد أن الإنسان الزاهد هو الذي يستأهل الاحترام والتقدير. 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات
كلمات دلالية: