+ -

ورد في صحيح الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم بارزًا يومًا للنّاس، فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تَعبُد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصّلاة، وتؤدّي الزّكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك”.. الحديث.الشّاهد من الحديث قول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: ”أن تَعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك”، تالله إنّه لتعبير عجيب، تعبير يَحمل في اختصاره حقيقة هائلة مذهلة، إنّها كلمات تحمل في طيّاتها قاعدة كبرى يقيم عليها الإسلام بناءه، وهي: ”أن تعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكُن تراه فإنّه يراك”، قاعدة يقيم دينُنا عليها نظمَه كلَّها وتشريعاته وتوجيهاته طُرًّا، نظام القضاء، نظام الاقتصاد، نظام السياسة، نظام الأسرة، موقف الفرد من المجتمع، وموقف المجتمع من الفرد، نظام المجتمع بأسره، بل نظام الحياة جمعاء كلّها، إنّه لمَن الخير لنا أن نعبُد الله كأنّنا نراه، إنّها الرّهبة المصحوبة بالأمل، حال كوننا متوجّهين إلى الله، مخلصين له بقلوبنا، عاملين على رضاه، مصحوبين بالذّعر، فهو من ورائنا محيط، فالخير كلّ الخير في أن نعبُد الله كأنّنا تراه.من القواعد المعلومة في ديننا أنّ الجزاء من جنس العمل، فمَن راقب الله في الدّنيا جوزي بالحسنى في الآخرة، فقول الحبيب صلّى الله عليه وسلّم: ”أن تعبُد الله كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك”، في تجليته لمعنى الإحسان، يشير إلى أنّ المكلَّف عليه أن يعبُد الله على هذه الصّفة، وهي استحضار قربه، وأنّه بين يديه كأنّه يراه، وهذا من شأنه أن يوجب الخشية والخوف والهيبة والتّعظيم، وذلك أفضل الإيمان، كما ورد في الأثر: ”أفضل الإيمان أن تعلَم أن الله معك حيث كنت”، وهو مصداق قول الباري سبحانه: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ}، فإذا امتثل العبد لهذا التّوجيه النّبويّ فاز بوعد مولاه: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}، فالحُسنى الجنّة، والزّيادة النّظر إلى وجه الله عزّ وجلّ، وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان؛ لأنّ الإحسان هو أن يعبد المؤمن ربّه في الدّنيا على وجه الحضور والمراقبة كأنّه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك النّظر إلى الله عيانًا في الآخرة، وعكس هذا ما أخبر به تعالى عن جزاء الكفّار في الآخرة: {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، فجعل ذلك جزاء لحالهم في الدّنيا، وهو تراكم الرَّان على قلوبهم حتّى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدّنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة.على الأمّة أن يتجلّى الإحسان في كلّ شأن من شؤونها، وفي جميع مجالات حياتها، فالقاضي لا يظلم ولا يجور حين يراقب ربّه كأنّه يراه، فهو الّذي يخاطبه: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، أمّا إذا لم يعبُد الله كأنّه يراه، فهو للدّنيا أحبّ، وللزّلل أقرب، ولربّما اقتطع أموال اليتامى والأرامل وأموال الوقف والفقراء والمساكين، فأكَلَ الحرام، وأطْعَمَ الحرام.ويسري أثر مراقبة الله فيمتد إلى الأسرة عمومًا والحياة الزّوجية على وجه الخصوص، فالإحسان يمكِّنُ الزّوجين أن يتعاشرَا بالمعروف، وأن يصون كلّ واحد منهما عرض صاحبه في غيبته، وذلك لأنّ مطارق الخوف من الله تذكّرهم بقوله تعالى عن يوسف عليه السّلام: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ}، فلقد اجتمع ليوسف من الدّواعي للوقوع في الإثم الشّيء الكثير، وكان شابًا، وقد غلَّقت الأبواب، والّتي غلَّقت هي ربّة الدّار، فما الّذي حدث: {قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}، استعاذةٌ وتنزُّهٌ، واستقباحٌ لمَا صدر من امرأة العزيز، لماذا؟ لأنّ سيّدنا يوسف من الّذين يعبدون ربّهم كأنّهم يرونَهُ، وفي الصّحيح ذكر المصطفى أصنافًا من الخليقة يظلّهم في ظلّه يوم لا ظِلّ إلاّ ظلّه: ”ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إنّي أخاف الله”.ويمتد أثر مراقبة الله في حياة العلماء، فبالرغم من عِظَم مكانتهم، وعلوّ منزلتهم، ولكن يا لفظاعة كَبوتهم وعِظَم زلّتِهم في عيون الرّعاع، ومن هنا فإنّ العلماء هم أولى النّاس بالإحسان، والعالم الربّاني هو من تحقّق فيه ذلك وجمَّل علمَه بالعمل، قال سفيان الثوري رحمه الله: (إنّما فُضِّل العلم، لأنّه يُتَّقى به الله، وإلاّ كان كسائر الأشياء)، فمَن طلب بالعلم سيادة على الخلق وتعاظمًا عليهم فهو متوعَّد: {مَن طلب العلم ليُماري به السّفهاء، أو يجاري به العلماء، أو يصرف وجوه النّاس إليه أدخله الله النّار}.فالعالم إذا عبد الله كأنّه يراه كرهت نفسُه الفُتيا، والحرص عليها، قال الإمام أحمد رحمه الله: (مَن عَرَض نفسَه للفُتيا فقد عَرَّضها لأمر عظيم، قيل له: فأيُّما أفضل الكلام أم السّكوت؟ قال: الإمساك أحبّ إليّ، ثمّ قال: وليعلم المفتي أنّه يوقِّع عن الله أمْرَه ونهيه، وأنّه موقوف ومسؤول عن ذلك)، وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول: (إيّاك أن تكون ممّن يحبّ أن يُعمَل بقوله، أو يُنشر قولُه، أو يُسمع قولُه، وإيّاك وحبَّ الشّهرة، فإنّ الرّجل يكون حبُّ الشّهرة أحبَّ إليه من الذّهب والفضّة، وهو باب غامض لا يُبصره إلاّ البَصير من العلماء السّماسرة).

إمام مسجد عمر بن الخطاببن غازي ـ براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات