لا ننتظر إصلاحًا وتغير حال من غير قراءة!

+ -

لا يمكن لمحدودي العلم أن يبنوا أمة! ولا يمكن لفارغي العقول أن ينهضوا بشعب! ولا يمكن لأميين أن يُعلوا دولة!ولا يمكن للجهلة أن ينشئوا حضارة! ولا يمكن إصلاح الفساد وإقامة الانحراف وتقويم الميل وتصحيح الخطأ من غيرعلم ومن غير قراءة! هذا لا شك ولا ريب فيه ولا امتراء. وهذا حكم عام ينتظم أمم البشر كافة، بيد أني أحسبأن هذا الحكم أصدق على الأمة الإسلامية أكثر؛ لأنها أمة كان إعلان نشأتها الأولى: {اقرأ}!أول ما نشأت أمتنا نشأت بنزول هذه الآيات العظيمة الكريمة الآمرة بالقراءة والحاثة على العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبكَ الذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ * اقرَأْ ورَبكَ الأَكرَمُ * الذِي عَلمَ بِالقَلَمِ * عَلمَ الإِنسَانَ مَا لَم يَعْلَمْ}، والوحي الذي أنشأها سماه الله جل ثناؤه قرآنًا من القراءة، وكتابًا من الكتابة، وهما ركنَا العِلم وأساساه، أو كما يقول إمامنا البشير الإبراهيمي عليه شآبيب الرحمة: ”فتسميته له بالكتاب تنبيه لنا بما في الكتابة والخط من الفوائد لنكون أمة كاتبة، فإن أول ميزان توزن به الأمة هو ما فيها من النسبة المئوية بين الذين يكتبون والذين لا يكتبون. وتسميته بالقرآن تنبيه لنا بما في القراءة من فوائد بعد معرفة الكتابة؛ لأنهما الأساسان اللذان تنبني عليهما أمور الدنيا والآخرة”. فالدنيا والآخرة تبنيان على الكتابة والقراءة أي العلم؛ فعالي القدر في الدنيا من الأفراد والشعوب والأمم هو من أخذ الحظ الأوفر من العلم، كما أن عالي القدر في الآخرة من المؤمنين هو من أخذ الحظ الأوفر من العلم: {يَرفَعِ اللهُ الذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ}.إن ما بلغته أمتنا قديمًا من حضارة عظيمة يجهل حقيقتها كثير من الناس، وما بلغته كثير من الدول في حاضرنا من تطور انبهر به كثير من الناس إنما مبتدؤه ومنتهاه العلم، وانتشار القراءة، والشغف بالمطالعة! وكثيرون يتحدثون بإعجاب عن نسبة المقروئية في الدول المتطورة، وعن مطالعة الناس ومصاحبتهم للكتاب في وسائل النقل المختلفة، وعن أساليبهم البديعة في نشر المطالعة في الفضاءات العامة المتعددة، ومثل هذا وأعجب منه كان من حال آبائنا وأجدادنا كما هو محفوظ في كتب التراجم والتاريخ، ذلك أن هذه هي أخلاق الإنسان المتحضر، يشترك فيها كل مَن بَلَغ مبلغًا في سلم الحضارة!بل قد وجد في تاريخنا من ربما يوصف بالتطرف والشذوذ في شغفه بالمطالعة وقراءة الكتب، فقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وحدثني شيخنا -يعني ابنَ تيمية- قال: ابتدأني مرضٌ، فقال لي الطبيب: إن مُطالعتك وكلامك في العِلم يزيد المرض، فقلت له: لا أصبر على ذلك، وأنا أحاكمك إلى عِلمك، أليست النفس إذا فرحت وسُرت وقَوِيت الطبيعةُ فدفعت المرضَ؟ فقال: بلى. فقلت له: فإن نفسي تُسر بالعلم فتقوى به الطبيعةُ فأجدُ راحةً. فقال: هذا خارجٌ عن علاجنا.. وقال الإمام ابن عقيل الحنبلي رحمه الله: أنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرًا على مطالعةٍ، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، بل قال الإمام ابن القيم رحمه الله وهو يتكلم عن عِشْق العلم: عن عبدالحليم بن تيمية والد شيخ الإسلام قال: كان الجَد الإمام أبو البركات مجد الدين بن تيمية إذا دخل الخلاء يقول لي: اقرأْ في هذا الكتاب وارْفَعْ صوتك حتى أسمع! والإمام الفقيه القاضي الفيلسوف الطبيب أبو الوليد ابن رشد الحفيد المالكي رحمه الله حكي عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة مُذْ عقل إلا ليلة وفاة أبيه وليلة بنائه على أهله! إلى غيرها من قصص، وهي كثيرة وفيرة. فالحضارة الإسلامية إنما قامَت على عقول كبيرة وعلى علم واسع وعلى اجتهاد مبدع وعلى نفوس وثابة، وهكذا كل حضارة وكل نهضة وكل إصلاح إنما تقوم على مثل هذا! ولهذا أجدني أبتئس لما أرَى حال الأمة الإسلامية عمومًا وحال الجزائر خصوصًا وقد تقدم لقيادتها أناس طالت دعاويهم وضحلت علومهم وصغرت عقولهم وانعدمت مطالعاتهم! في الجامعات والجوامع، وفي الإعلام والصحافة، وفي الأحزاب والسياسة، وفي الإدارة والمؤسسات! وأزداد يقينًا بأن طريق الإصلاح ما زال طويلاً، وحدوث التغير المنشود ما زال بعيدًا، خاصة وعامة الناس -وخاصة الشباب- عاكفون على كرة أو طبل ومزمار، قد طلقوا الكتب ثلاثًا واتخذوها ظِهريا! ونفروا من العلم والتعلم نفورهم من الأسد الهائج! بل للأسف أن هذا حال كثير من النخبة التي يفترض فيها أن تكون القاطرة التي تجر غيرها إلى الأمام وإلى الإصلاح، فقد قال مالك بن نبي رحمه الله متحسرًا على هذه النخبة: ”فالنخبة عندنا لا تشعر بحاجة للمطالعة بعد تخرجها من الجامعة، وعملها الفكري ينتهي -لأسباب اجتماعية ونفسية موروثة- عند تحصيل الشهادة.. أي عند النقطــة التي تبتـــدئ منــها النخبــة، في البلاد الأخرى، العمل الفكري الجــدي..”. وويْلٌ لأمــة لا تقـرأ نخبتـها، وويْلٌ لأمــة لا يقــرأ أفرادها!*إمام وأستاذ الشريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات