التّيسير في الحجّ بين رُخَص الشّرع وتشديد النّاس

+ -

إذا نظرنا في أحكام الحجّ نجد روح التّيسير سارية في كلّ تفاصيلها، من حيث أنّ الله سبحانه لم يُشرِّع فيها ما فيه مشقّة لا يُطيقها الإنسان، ومن حيث كثرة أقوال السّلف والأئمة في المسألة الواحدة، الشّيء الّذي يخفّف على الحاج.ذلك أنّه مهما اختار قولاً منها فهو مُتّبِع غير مبتدع، وله إمام سالف، وهذا ما يعنيه الإمام التابعي القاسم بن محمد بن أبي بكر الصّدّيق بقوله: [لقد نفع الله باختلاف أصحاب النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاّ رأى أنّه في سَعة]. وقوله: [لقد أوسع الله على النّاس باختلاف أصحاب محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء”. وليزداد هذا وضوحًا ورسوخًا، سأستعرض أهم أحكام الحجّ مُبيّنًا وجه التّخفيف وسعة الخلاف فيها:- الحجّ واجب مرّة واحدة في العمر، لكن وجوبه مشروط بالاستطاعة، فمَن لم يستطع الحجّ لأيّ مانع فلا إثم عليه، ولا يخفى ما في هذا من التّخفيف. ومَن لم يخرج اسمه في القرعة تسقط استطاعته ولو كان أغنى الأغنياء؛ فما يفعله بعض النّاس من اتّخاذ وسائل غير مشروعة تصل إلى دفع رشوة (شراء جواز الحجّ) بزعم الحِرص على الحجّ جهل ومعصية.- الحجّ وجب على التّراخي عند كثير من العلماء، فمَن توفّرت له شروط الحجّ ولم يُبادر إليه وعزم على تأخيره لا يأثم عندهم، وهذا قول عند المالكية.- النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يحجّ إلاّ مرّة واحدة كما هو معروف، فمَن حجّ مرة واحدة فقد أدّى الّذي عليه. أمّا تكراره فهو مستحبّ لكن في الظّروف الّتي نراها في الحجّ من زحام خانق منع كثيرين من أداء مناسكهم على الوجه المشروع الأولى عدم تكرار الحجّ إلاّ بعد سنوات، وقد حدّدها كثير من العلماء المعاصرين بخمس سنوات للحديث القدسي: «إِنَّ اللهَ يَقُولُ: إِنَّ عَبْدًا أَصْحَحْتُ لَهُ بَدَنَهُ، وَأَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، لَمْ يَغْدُ إِلَيَّ فِي كُلِّ أَرْبَعَةِ أَعْوَامٍ لَمَحْرُومٌ» روا الطبراني وأبو يعلى. ولكن مع تزايد عدد المسلمين في العالم وحتّى تعطى الفُرصة لأكبر عدد منهم للقيام بالركن بدل قيام البعض بالمستحب بتكرارهم الحجّ أرى أن تجعل المدّة عشر سنين، وأن تتّبع أنظمة صارمة لمراقبة ذلك.- ممّا يتّصل بالنقطة السّابقة ويزيدها وجاهة ووضوحًا ما ذكره العلماء من تفضيل الصّدقات على الأقارب والمحتاجين على تكرار الحجّ، قال التابعي الجليل الحسن البصري: [يقول أحدهم: أحجّ، أحجّ، قد حججت؛ صِلْ رحِمًا، نَفِّسْ عن مغبون، أحسن إلى جار]، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: [وَالحجّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ الَّتِي لَيْسَتْ وَاجِبَةً. وَأَمَّا إنْ كَانَ لَهُ أَقَارِبُ مَحَاوِيجُ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِمْ أَفْضَلُ]. ولا يقولن قائل: كيف تقولون هذا والأحاديث واردة باستحباب تكرار الحجّ؟، لأنّ هذا السؤال يرد لو قال هؤلاء العلماء بتحريم تكراره ومنعه البتة، لكنّهم لم يزيدوا على أن دعوا إلى تنظيم تكرار الحجّ وتقييده، مراعاة للزّحام الشّديد فلا شكّ أنّ أمكنة المناسك والمشاعر لمَن يؤدّي الفريضة وهي حجّه الأولى أولى؛ لأنّه أحقّ بها ممّن يكرّر الحجّ تطوّعًا، وهذا لا يعارض الأحاديث؛ لأنّها مطلقة لم تحدّد كيف يكون تكرار الحجّ.- تخيير الحاج بين الأنساك الثلاثة في الحجّ: الإفراد [ينوي الحجّ فقط]، والتّمتُّع [ينوي العمرة فقط ثمّ يتحلّل كلية، ثمّ يحرم بالحجّ في وقت الحجّ]، والقِرَان [ينوي الحجّ والعمرة متداخلين]، نوع من التّيسير، فمَن جاء باكرًا إلى المشاعر أحْرَم مُتَمَتِّعًا حتّى لا يشقّ عليه البَقاء مُحرمًا مدّة طويلة، ومَن جاء متأخّرًا أحرم مُفرِدًا أو قارنًا بحسب ظروفه.- من التّيسير والرُّخَص المتعلّقة بالإحرام: يجوز للمُحرِم الاغتسال من غير استعمال مطيّب من عطر أو صابون، ويجوز له تغيير لباس إحرامه، ويجوز له استعمال حزام لعقد إزاره أو حفظ المفاتيح والوثائق والأموال، ومن التنطّع الّذي سبّبه الجهل امتناع بعض المُحرمين من لبس كلّ ما مرّ فيه خيط؛ لظنّهم أنّ المقصود بالمَخيط ما مرّ فيه خيط، وليس ذلك المقصود به، بل المقصود ما كان مُفصّلا من الثياب على حسب العضو...* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات