لماذا نُسقط علماءنا وكُبراءنا بخطأ واحد؟!

+ -

بعض أصحاب الأقلام كالذّباب لا يقع إلّا على الجراحات والقذوراتِ! وغذّى فيهم هذه النّفسية المعوّجة البيئة الفاسدة التي نعيش ظلالها النّكدة، هذه البيئة التي صارت أكثر الأخبار فيها جذبًا لاهتمام الناس هي أخبار الفضائح: فضائح السياسيين، وفضائح اللاعبين، وفضائح الفنانين! إن لم تكن أخبارهم كلّها فضائح!وهنا لَمّا يحمل القلم شخص فارغ الرأس من الأفكار، غير قادر على تقديم ما ينفع الناس، وهو مضطر لتسويد الورق من أجل التّعيّش والتّقوّت، فإنّ الطريق السّهل هو نصب مرصد لتصيّد أخطاء عباد الله الميتين منهم والأحياء، الّذين لا يسلم واحد منهم من خطأ ونقص وضعف إلّا من عصمه الله من المصطفين الأخيار، فإن لم يجد هذه الأخطاء والنقائص فلا بأس باستغلال الإشاعات وإن كانت ظاهرة التدليس والكذب، وإلاّ، فلا بأس بالاختراع والبهتان، فالغاية هي الإثارة، والغاية تبرر الوسيلة!وهذه الحال في الحقيقة مرض نفسيّ عُضال، خاصة إذا كان المصاب به يحسِب نفسه “الفهّيم العرّيف” اّلذي لا يغيب عنه شيء، ولا يخفى عليه مثقال ذرة، قد ملك عليه الإعجاب برأيه نفسه وحسّه!. ولكنّ المؤمن كاتبًا كان أو قارئًا لا يقبل منه أبدًا أن تكون نفسيته نفسية ذُبابية، بل هو كما وصفه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمن مثل النّحلة إن أكلت أكلت طيّبًا، وإن وضعت وضعت طيّبًا، وإن وقعت على عود شجر لم تكسره» رواه البيهقي وغيره.قدّمتُ هذا الكلام لأنبّه على ظاهرة صارت موضة، مع خطرها في الظرف الحالي. وهو تكالب بعض الكتّاب على هدم مكانة العلماء والكبراء، وتصيّد أخطائهم، وتضخيمها، ونفخها، وهدم إحسانهم الّذي استمرّ لعقود من الزمن بخطأ واحد أو أخطاء محدودة! مع أنّ العلماء والكبراء بشر يصيبون ويخطئون، «وكلّ بنى آدم خطّاء، وخير الخطّائين التّوابون» رواه أحمد وغيره. والّذي لا ينتبه له هؤلاء أنّ إسقاط هيبة العلماء والكُبراء والمفكرين، وهدم مراتب الناس وذوي الهيئات ستكون له آثار وخيمة على عامة الناس؛ لأنّ عامة الناس إذا أُسقطت مرجعياتهم الواحدة تلو الأخرى، وفقدوا الثقة في كلّ شيء وفي كلّ شخص، سيكونون في حالة خطيرة، وتفتح عليهم أبواب شتى من الفتن والمحن، وسيهدّد المجتمع في أمنه الفكري وأمنه الواقعي. ولكنّ هؤلاء الكتّاب لا يعقلون.وأجدني مُلزمًا بتوضيح نقطتين حتّى لا أفهم خطأً. الأولى: أنا لا أدعو إلى عدم نقد العلماء ومواقفهم وآرائهم، بل بالعكس أشجّع ذلك وأحثّ عليه، فلن تتحسّن أوضاعنا إلاّ بالتفكير الناقد الحصيف. بيد أنّ النقد شيء وتجريم الناس وتخوينهم شيء آخر. نقد الآراء والأفكار والمواقف شيء والانتقام والتّشفّي وتحويل الأمر إلى قضية شخصية شيء آخر. نقد الشخص في رأي أو فكرة أو مواقف شيء وهدم هذا الشيء وتجريف تاريخه وإنكار عطائه وطمس حسناته شيء آخر. وهذا أمر بيّن لمن كان له عقل ورام العدل. والمسألة الثانية: هي أنّ بعض [أقول بعض] العلماء، وبعض الدعاة، وبعض المفكرين، وبعض الكتّاب [بهدلونا] هداهم الله بمواقفهم المخزية، التي تحرّف دين الله سبحانه اتباعًا لهوى حاكم لن يخلد في الحكم مهما طال حكمه. الّذين صار أقوى دليل عندهم هو موقف السلطان، فإذا قال: قيادة السيارة على المرأة حرام فهو حرام، وإذا قال هو جائز قالوا هم: هو واجب. بل أحد السّفهاء من هذه العيّنة أباح لسلطانه حتّى الفجور العلني نصف ساعة يوميًا على الفضائيات!. وكم ذا بهذه الدّنيا من المضحكات ولكنّه ضحك كالبُكَا!. فهذا الصنف للأسف موجود، ولكن ليس كلّ العلماء والدعاة والمفكرين والكتّاب أمثال هؤلاء وإلاّ خربت الدّنيا. وتعميم الحكم جور وظلم.وانظروا كيف يعلّمنا القرآن الكريم الإنصاف وعدم التعميم، فعند حديثه عن اليهود وأهل الكتاب، وما أدراك ما اليهود خبثًا وكفرًا، يقول الحقّ سبحانه: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ}، وقال الحقّ عزّ شأنه أيضًا: {ومِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}. وهكذا الأمر مع كلّ فئات الناس دائمًا نقول: ليسوا سواء منهم فرقة.. ومنهم فرقة..إنّ العلماء يخطئون ويصيبون، فهم ليسوا معصومين، ولكنّ خطأهم لا يجعلنا ننسى محاسنهم، وننسى ما قدّموه من خير قبل حدوث خطأهم ذلك، وإن كان الناس عادة لا ينسون الخطأ والسيئات أبدا، وسُرعان ما ينسون الصّواب والحسنات!. ورحم الله الإمام مالك حيث قال: لو سُئِلتُ في مئة مسألة، فأصبت في تسع وتسعين وأخطأت في واحدة؛ لقال الناس أخطأ مالك!.إنّ ميزان العدل يوجب علينا الحكم على الناس بصوابهم وأخطائهم، بحسناتهم وسيئاتهم. وإذا انتقدنا عالمًا أو داعية أو مفكرًا أو كبيرًا في أمر من الأمور، أو أيّ إنسان مهما كان فالواجب هو العدل، وعدم إلغاء كلّ حسناته، وكلّ خيره وكلّ فضله من أجل موقف واحد أو مواقف، وبسبب خطأ واحد أو أخطاء، فلا يعقل أنّ عالمًا أو أيّ شخص قدّم الخير الكثير لسنيين ثمّ أخطأ بعض الأخطاء في قضايا اجتهادية فقهية أو سياسية أو غير ذلك، نأتي ونمحي سنوات العطاء الطيّب كلّها من أجل ذلك. وهذا الّذي يجب أن ينتبه له عامة الناس، وخاصة أصحاب الأقلام والكلمة منهم؛ لأنّ المسؤولية في حقّهم أكبر وأعظم. وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله: “من قواعد الشّرع والحكمة أيضًا أنّ مَن كثُرت حسناته وعظُمت، وكان له في الإسلام تأثيرٌ ظاهر، فإنّه يحتمل له مالا يحتمل لغيره، ويعفى عنه مالا يعفى عن غيره. فإنّ المعصية خبث والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث”.وأنا لم أذكر أسماء أشخاص بعينهم تلافيًّا للحساسيات الكثيرة الّتي سيطرت علينا. واكتفيتُ بهذه الإشارة عن صريح العبارة، وتكفي اللبيب إشارة مرموزة، وغيره يدعى بالنداء العالي!.

 

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات