38serv

+ -

قد يرى البعض تناقضًا في الجمع بين العلم والجهل في الوصف؟ بيد أنّ كثيرًا ما يجتمع في شخص واحد العلم الكبير مع الجهل الشّديد! ذلك أنّ قيمة العلم الأساسية في الاستفادة منه، والاهتداء به، حتّى تكون مواقف المرء سليمة، وتكون أحكامه سديدة، وتكون آراؤه صحيحة، وخاصة في القضايا الكبرى والمسائل المصيرية.

الشّاهد لهذه القضية ما عايشه الكثير منّا ورأوه من أفراد بلغوا من العلم (شرعيًّا أو غيره) مبلغًا كبيرًا ولكنّهم اتّخذوا مواقف تتناقض مع علمهم، ومخالفة له مخالفة كلية! ومن أفراد اختاروا خيارات لا يتّخذها أجهل الجهلاء! وساروا مسارات لا يرضى سيرها أحمق الحمقى! ولم ينقدهم علمهم الكبير، ولم يعصمهم من هذه السّقطات الّتي قد تكون قاتلة.إذن ليس كلّ صاحب علم ينتفع بعلمه. وعلى هذا يستوي هو ومن لا علم له، ويستوي هو والجاهل. فما الفرق بين عالم ذي علم كبير لم ينفعه علمه، وبين جاهل خلوٍ من العلم! نعم هناك أمور تذهب بفائدة العلم وتجعل من اتّصف بها كالجاهل، بل أسوأ! لأنّ الخطأ منه أشنع، والجهل منه أفظع!، بعد كدّه في التحصيل وترقيه في مدراج العلم. وقد قيل للإمام أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه: من أحقّ النّاس بالتعلم؟ قال: العالم؛ لأنّ الجهل منه أقبح!هذه الأمور الّتي تذهب بفائدة العلم، فتجعل صاحبها العالم كالجاهل سواء بسواء كثيرة لا يمكن الإحاطة بها في هذا المقام، وإنّما أريد أن أنبّه على أخطرها أثرًا، وأكثرها شيوعًا، وهو إتباع الهوى. هذا البلاء الّذي يجعل العالم جاهلًا قطعًا، قال الله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}، فانظر كيف قرّر الحقّ سبحانه: {وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}، ” أي: وأضل الله تعالى هذا الشّقيّ، والحال أنّ هذا الشّقي عالم بطريق الإيمان، ولكنّه استحبّ الغيّ على الرشد”. ”فأضله الله بعد بلوغ العلم إليه، وقيام الحجّة عليه. {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} أي: فلا يسمع ما ينفعه، ولا يعي شيئًا يهتدي به، ولا يرى حجّة يستضيء بها؛ ولهذا قال: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَّكّرُون}”.فمعنى {عَلَى عِلْمٍ} أنّه أحاطت به أسباب الضّلالة مع أنّه من أهل علم، صاحب عقل سليم، وقد بلغه العلم الهادي، من القرآن العظيم ودعوة النّبيّ الكريم عليه أزكى الصّلاة والتّسليم، وقامت عليه الحجّة، وهو يعلم صدق الرّسول وصحّة دعوته، ومع ذلك اختار الكفر على الإيمان إتباعًا للهوى. {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ}.فالّذي يتّبع هواه يُضلّه الله تعالى مع ماله من صفة العلم، ووصف بالضّلال - وهو عين الجهل - مع علمه؛ لأنّه متعمّد لإتّباع الهوى، مؤثّر له على الهدى. قال العلامة ابن عاشور رحمه الله تعالى: ”وهذه الآية أصل في التّحذير من أن يكون الهوى الباعث للمؤمنين على أعمالهم ويتركوا اتّباع أدلة الحقّ”. والمرء لا يكون مؤمنًا حقّا حتّى يخضع خضوعًا كاملًا لمقتضى إيمانه، ويخضع خضوعًا كاملًا للحقّ، ويخضع خضوعًا كاملًا للعلم الصحيح، ولو خالف كلّ ذلك هواه. وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ».إنّ ما نشاهده من بعض كبار العلماء بالكون من جحود ومكابرة ومعاندة وتظاهر بالإلحاد والكفر، مع يقينهم باستحالة أن يوجد هذا الكون المعجز في كلّ صغيرة وكبيرة منه صدفة، أو من تحوّل مادة صمّاء، وعلمهم الدّقيق بتفاصيل ذلك أكثر من غيرهم، هو في الحقيقة إتّباع للهوى ليس إلّا. فهو جهل قبيح ركب علمًا كبيرًا. وإنّ ما نشاهده من بعض كبار وصغار علماء الشّرع من تحريف قبيح لشرع الله، واجتراء وقح على دين الله سبحانه وتعالى، إرضاءً لبعض الحكام الّذين لن يخلدوا في حكمهم يقينًا، فأباحوا لهم أعراض النّاس وأموالهم ودماءهم، بل زعم سفيه سخيف منهم أنّه يجوز للحاكم قتل ثلث الشعب استبقاء لثلثيه (كبُرت كلمة هو قائلها!)، وبدّلوا وحرّفوا ما شاؤوا، إنّما يتّبعون أهواءهم، بل أهواء غيرهم! فهم جهلاء وإن كانوا دكاترة وحسبوا في زمرة العلماء. فهاتان صورتان للعلماء الجاهلين! ولا تستغربوا ذلك فإنّ الهوى يحوّل العالم جاهلًا، والعاقل أحمقًا، والحليم سفيهًا!وصدق الله جلّ شأنه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}.إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة3

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات