+ -

نظريًّا، نتفق جميعًا أنّه لا عصمة لأحد من البشر سوى الأنبياء عليهم السّلام، طبعًا هذا إذا استثنينا الشيعة الّذين يعتقدون في الأئمة الاثني عشر العصمة وأكثر من العصمة، وهذا قول سخيف لا يلتفت إليه ذو عقل. وكلّنا يردّد قول الإمام مالك رحمه الله: “كلٌّ يؤخذ من قوله ويردّ إلّا صاحب القبر عليه السّلام”.لكن إذا نظرنا إلى الواقع وتتبعنا مواقف كثير من النّاس، من أهل العلم المتخصّصين ومن غيرهم، ماذا نجد؟ هل نجدهم يتعاملون مع العلماء على أنّهم بشر يصيبون ويخطئون، أم على أنّهم معصومون لا يخطئون؟الحقيقة أنّ أغلب من هو معجب بعالم أو داعية أو شيخ يعامله عمليّا وواقعيّا على أنّه معصوم، وإن كان يصرّح أنّه لا يعتقد عصمته!. وأغلب من يعتقد في عالم ما أو مجموعة علماء محدودة أو تيّار معيّن أو طائفة معيّنة تمثيل الحقّ يعامل ما يصدر عنه أو عنهم عمليًّا وواقعيًّا على أنّه صادر عن معصوم أو معصومين! ودعك عن ادعائه أو تأكيده المرّة بعد الأخرى أنّه لا يعتقد العصمة في غير الأنبياء عليهم السّلام، فهذا ادعاء نظريّ يكذّبه الواقع، ويكذّبه تعامله مع اختلاف العلماء إذ تجده لا يخرج عن قول عالم أو مجموعة علماء ينتسبون إلى مدرسة واحدة، وهم قد يكونون مختلفين في مسائل كثيرة، ولكن اعتقاد العصمة فيهم واقعيًّا واعتقاد العصمة في منهجهم ومدرستهم نظريًّا وعمليًّا يجعل المتعصب لهم يحسب أنّهم لا يختلفون!الّذي أريد قوله أنّ ثمة بونًا شاسعًا بين ما يدّعيه البعض نظريًا وبين ما يسيرون عليه عمليًّا في هذه القضية، قضية عصمة العلماء. وانظر حين تجد عاميًّا أو دكتورًا تعترضه مسألة من مسائل الدّين، فلا يهتم لِما قاله علماء الأمّة عبر القرون المتطاولة والأصقاع المتباعدة، بل يذهب مباشرة إلى ما قاله العالم الفلاني أو العلماء المحدّدون، ولا يهمّه بعد ذلك ما قاله غيرهم، وإن خالفه أو خالفهم جمهور علماء الأمّة مدى قرون متوالية، فلا يهم! وما ذلك إلّا اعتقادٌ للعصمة في هؤلاء العلماء عمليًّا من ينهج هذا النّهج السّخيف، وإن كان يلهج بنفي العصمة عنهم وعن البشر عدَا الأنبياء والمرسلين عليهم السّلام!وهذا ليس خاصًا بالفقه والفتوى، أو بباب معيّن من أبواب العلم، أو مجال محدّد من مجالات المعرفة. بل هذه ظاهرة عامة. خُذ مثلًا الحديث الشّريف، رغم أنّ المحدثين منذ الصّحابة والتابعين إلى يوم النّاس هذا ما تركوا حديثًا من أحاديث النّبيّ الكريم عليه السّلام إلّا حفظوه ودرسوه وبحثوا الجوانب المتعلّقة به باستفاضة، ولكنّ كثيرًا من المعاصرين من العلماء أو الباحثين الأكاديميين وحتّى من غير المختصين إذا اعترضهم حديث وأرادوا معرفة درجته: صحّة أو حسنًا أو ضعفًا، فإنّهم يتّجهون إلى بعض المعاصرين ولَن يَقبلوا إلّا ما يقولوه هؤلاء المعاصرون، وكأنّ علم الحديث بدأ مع الحرب العالمية الأولى أو الثانية! ويهملون جهود الأئمة الحفّاظ في خدمة السنّة النّبويّة، بل يزيدون الظُّلم ظلمًا حين يكون حديث قد صحّحه أو ضعفه مالك أو البخاري أو مسلم أو أبو داود أو الترمذي أو النسائي أو ابن ماجه أو أحمد، أو من بعدهم الدّارقطني أو البيهقي أو ابن حبان... إلى ابن حجر والهيثمي والسيوطي وغيرهم من الحفّاظ، فيغفل كلّ هؤلاء، ويقول: صحّحه أو ضعفه فلان المعاصر!وهذا خطأ منهجيّ فاضح، بل العجب حين يضعّف المتقدّمون حديثًا ويصحّحه معاصر أو العكس، كأنّ يضعّف مَن ذكرتُ من علماء الحديث كلّهم حديثًا ويصحّحه باحث معاصر، فنجد مَن يعتقد فيه العصمة عمليّا لا يعرّج على أقوالهم ويتمسّك بقول شيخه، وهل يخطئ شيخه؟! هذا أمرٌ مستحيل عمليًّا؟!إنّ هذه الظاهرة الّتي أتكلّم عليها، هي حقيقة واقعية لا يمكن إنكارها للأسف، فكثيرون هم مَن يعتقدون عصمة مَن يُحبّون من الشّيوخ ويعجبون به، وإن أنكروا ذلك - كما قلت - بأفواههم؛ ولهذا إذا سألتَ من هو مبتل بهذا الانحراف هل يخطئ شيخك أو شيوخك؟ فسيجيب بسرعة من غير تريّث ولا نظرًا: طبعًا هو بشر غير معصوم. ولكنّ إذا قلتَ له: أعطني أمثلة لأخطائه، فسيغمغم ويحمحم، وربّما ذكر لك خطأ واحدًا ذُرًّا للرّماد في عينك فقط! أمّا إذا كنتَ في مقام النقاش في مسألة خلافية بين العلماء، وقلتَ له: ربّما شيخك أو أشياخك مخطؤون في هذا المسألة! فهنا ستسمع العجب من الثّناء عليه أو عليهم، وتعظيم اتّهامه بالخطأ وهو المحقّق والمدقّق، وهل تحسب أنّ الشّيخ أو المشايخ يفتون من غير إعمال نظر؟! وطبعًا يتّبع ذلك سيل من الاتهامات الموجّهة إليك بمخالفة الحقّ وإتّباع الهَوَى.. وما هذا إلّا لاعتقاده عصمته أو عصمتهم نظريًّا، ولكنّ أكثر النّاس عن هذه لغافلون!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات