38serv

+ -

عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ”سيأتي على النّاس سنوات خدّاعات، يُصدّق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصّادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضَة”. قيل: وما الرّويبضة؟، قال: ”الرّجل التافه فيأمر العامة” رواه ابن ماجه وغيره. وفي رواية: ”الفُويسق يتكلّم فيأمر العامة” رواه أبو يعلى وغيره. وفي رواية: ”السَّفِيهُ يَنْطِقُ فِيأَمْرِ الْعَامَّةِ”، وفي أخرى: قيل: يارسول الله، وما الرويبضة؟ قال: ”من لا يُؤْبَهُ له” رواهما الطّبرانيّ وغيره.وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنّه سمع رسول الله صلّي الله عليه وسلّم قال: ”إنّ الله يُبْغضُ الفُحْش والتَّفَحُّش. والّذي نفسُ محمَّد بيده، لا تقوُم السّاعةُ حتى يُخوَّنَ الأمينُ، ويُؤتَمَنَ الخائن، حتى يظهر الفُحْش والتفحُّش، وقطيعةُالأرحام، وسوءُ الجِوِارِ ..” رواه أحمد وغيره. وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ”والّذي نفس محمّد بيده، لا تقوم السّاعة حتّى يظهر الفُحش والبخل. ويخوّن الأمين ويؤتمن الخائن، ويهلِك الوُعُولُ، ويظْهَرُ التُّحُوت”، قالوا: يا رسول الله، وما الوُعُولُ وماالتُّحُوتُ؟، قال: ”الوُعُولُ: وجوه النّاس وأشرافهم، والتُّحُوتُ: الّذين كانوا تحت أقدام النّاس لا يعلم بهم”، وفي رواية: ”إنّ من أشراط السّاعة: أن يظهر الشُّح، والفُحش، ويُؤتمن الخائن، ويُخوّن الأمين، ويظهر ثياب يلبسها نساءٌ كاسيات عاريات، ويعلو التُّحُوتُ الوُعُولَ”، قلنا: وما التُّحوت؟ قال: ”فُسُولُ الرّجال، وأهل البيوت الغامضة، يرفعون فوق صالحيهم. والوُعُولُ: أهل البيوت الصّالحة” رواهما الطبرانيّ وغيره.وسأتجاوز ما في هذه الأحاديث الشّريفة من إشارات إلى انحرافات واختلالات اجتماعية ظاهرة في واقعنا لا تخفى على لبيب ولا بليد؛ لأقف مع ما له علاقة بضياع الحقيقة لانخداع النّاس بالرويبضة.وأوكّد ابتداءً أنّ هناك قصورا بيّنًا في التّعامل مع أحاديث أشراط السّاعة، يظهر جليًّا في اهتمام شُرّاحها بتحقيق الأحداث المذكورة فيها وتأويلها ومحاولة تنزيلها على واقعٍ ما عبر العصور، والإغفال التام لدراسة أبعادها الحضارية: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وما تُومئ إليه من تغيّرات جذرية تلحق مسار المجتمعات الإنسانية قاطبة، بما فيها المجتمعات الإسلامية.وهذه الأحاديث المذكورة مثال جيّد لما أقول. فقد وجدنا شرّاح الأحاديث اهتمّوا بشرح معنى (الرُّوَيْبِضَة، الوُعُول، التُّحُوت) لغة. لكنّهم أغفلوا السّياق الّذي وردت فيه هذه الكلمات. ومن شرح منهم قوله صلّى الله عليه وسلّم: (سنوات خدّاعات) قال: ”الخِداع: المكر والحيلة. وإضافة الخدّاعات إلى السّنوات مجازية. والمراد أهل السنوات. ولكنّهم قصّروا معناها هذا على مظهر واحد ورد في بعض روايات الحدث تمثيلًا، فقالوا: ”سنوات خدّاعات: أي يكثر فيها الأمطار ويقلّ الرّيع، فذلك خداعها؛ لأنّها تطمعهم في الخضب بالمطر ثمّ تخلف. وقيل: الخدّاعة القليلة المطر من خدع الريق إذا جفّ”.وما هذا إلاّ تمثيل بما هو مشهود ظاهر لا يحصر خداع السنوات فيه. بدليل ما جاء بعده من تصديق الكاذب وتكذيب الصّادق، وتخوين الأمين وائتمان الخائن، ممّا لا علاقة له بقلّة الأمطار والرّيوع. ثمّ أليس غريبًا أن تهمل مثل هذه الجمل النّبويّة فلا تشرح ولا يهتم بها إلّا يسيرًا مع تعلّقها بظواهر إنسانية خطيرة، تؤثّر على حياة البشر مباشرة؟!.فبعد البحث والتّنقيب القاصر لم أجِد شيئًا ذا بال في شرح هذه الأحاديث إلّا قولين: الأوّل للإمام العَيْنِي الحنفي رحمه الله يقول فيه: ”يُؤتمن الخائن ويُخوّن الأمين، وهذا إنّما يكون إذا غلب الجهل وضعف أهل الحقّ عن القيام به”. والثّاني للإمام الصّنعانيّ رحمه الله يقول فيه: ”(ويُخوّن) بالتّشديد (فيه الأمين) ينسب إلى الخيانة (ويؤتمن الخؤون) لخبث الطباع وانقلاب الأفكار عن الإصابة، فيرى المعروف منكرًا والمنكر معروفًا”. وقد تركَا مَهيعا فسيحًا وطريقًا وسِيعًا في القول.والأحاديث تتكلّم -والله أعلم- على اختلالات خطيرة تصيب البشرية بما فيها المسلمين عنوانها الأبرز: هيمنة الخداع وضياع الحقيقة. ومن تفاصيلها: ثقة النّاس فيمن ليس أهلًا للثّقة، واتّهامهم للصّالحين والمصلحين. وهذا ما يشر إليه قوله عليه السّلام: ”يُصدق فيها الكاذب، ويُكذّب فيها الصّادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوّن فيها الأمين”. وارتفاع السّفلة من النّاس والأوباش، واتضاع كرام النّاس وأشرافهم. وهذا ما ينبّه عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم: ”ويهلِك الوُعُولُ، ويظْهَرُ التُّحُوت”، ”ويعلو التُّحُوتُ الوُعُولَ”. وتمكّن الأراذل والأنذال من منابر صناعة الرأي، وهذا ما يقرّره قوله عليه الصّلاة والسّلام: ”وينطق فيها الرُّوَيْبِضة”، قيل: وما الرّويبضة؟، قال: ”الرّجل التّافه أو الفُويسق أو السَّفِيهُ أو من لا يُؤْبَهُ له فيأمر العامة”.ولا نغفل أنّ النّبيّ الكريم عليه السّلام قال: يُصدّق.. يُكذّب.. يُؤتمن.. يُخوّن.. هكذا بالبناء للمجهول حتّى يعمّ هذا الوصف الجميع صالحين وطالحين، مفسدين ومحسنين؛ لأنّه لا ينجو من التّضليل إلّا القليل ممّن أنجاه الله سبحانه وتعالى، وفي وقت دون وقت، وفي قضية دون أخرى. وعليه فلا يغترنّ امرؤٌ بما يسمع وبما يرى وبما يقرأ وبما يشيع وبما ينتشر، فكم ضُلّل النّاس قبلنا؟! وكم من وقائع اصطنعت؟! وكم من قضايا لُفِّقَت؟!، وكم من حقائق زُيّفت؟!...ولا يغترنّ امرؤٌ في الأشخاص الّذين اكتسبوا شهرة أو احتلّوا مناصب أو رفعوا شعارات أو تبنّوا دعوات.. فكم من (وُعُول) وُضعوا؟!، وكم من (تُحُوت) رفعوا؟!، وكم من أطهار شُوّهوا؟!، وكم من دجّالين ظهروا؟!، وكم من أنجاس استغلّوا أفكارًا طاهرة؟!...ولا يغترنّ امرؤُ بالدّعايات والإشاعات، فكم جمّل الرُّويْبِضَة من قبيح وقبّحوا من جميل؟!، وكم نجّسوا من طاهر وطهّروا من نجس؟!، وكم حرّفوا من حقائق وزيّنوا من باطل؟!، وكم رفعوا من نذل خسيس ووضعوا من شريف كريم؟!.ولا يصدّقنّ المرء كلّ ما شاع وانتشر وسلّم به النّاس، فالغالب أنّ كثيرًا ممّن يتحدّث عن الحرية هو الديكتاتور!، وكثيرًا ممّن يرفع شعار الديمقراطية هو من يحكم بالتّزوير أو الانقلاب!، وكثيرًا ممّن يعِد بالتّغيير والإصلاح هو من يزيد الوضع إفسادًا وإهلاكًا!، وكثيرًا ممّن يدّعي المصداقية هو الغارق في النّفاق والتّدليس!، وكثيرًا ممّن يدّعي أنّه حامل راية التّنوير هو الغارق في ظلام الضّلال!، وكثيرًا ممّن يرى نفسه على السُّنّة والهدى هو منبع الابتداع والرَّدَى!...وهذا الوضع البئيس -للأسف الشّديد- الّذي زاد من تعقيده تطوّر وسائل التّواصل، والّتي من خيرها وشرّها في آن واحد: طوفان المعلومات المتدفّق في كلّ ثانية، الّذي تحمله إلى مشارق الأرض ومغاربها ممّا يصعّب على العالم والباحث بَلْهَ الإنسان العادي غربلة المعلومات وتمييز الحقائق عن البواطل، قلت: هذا الوضع يُعطي أولوية قصوى لبناء الإنسان في الجانب العقلي، وجانب التّفكير، انطلاقًا من تربية أبنائنا والأجيال اللاحقة على التّفكير النّاقد السّديد، تدرّجًا بهم إلى المستويات العليا من التفكير. أمّا بقاء نمط التربية والتعليم على ما هو عليه فهو الخطر الماحق، الّذي سيجعل أبناءنا فريسة سهلة للدعايات الكاذبة، وسيبقينا جميعًا عُرضة للخضوع لفكر الرّويبضة، وتوجيه الرّويبضة، وسلطة التُّحُوت!. والخير ما زال وسيبقى في النّاس، ولكنّه يحتاج إلى صادق وأمين ينصره، فإنّ الباطل لا يُعدم كاذبًا وخائنًا يخدمه وينتفع به!!!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات