ماذا لو هُدِّم المسجد الأقصى المبارك أو قُسّم؟!

+ -

إنّ المسلم الّذي يقرأ قول الله عزّ شأنه في صلاته وخارجها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأقصا الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، يقرأ هذه الآية الكريمة مؤمنًا بها حقّا لا يُعقل منه - ولا يُقبل- أن لا يهتم بالمسجد الأقصى وما يُحاك له من مؤامرات، أو هكذا يجب أن نفترض، لكنّ الواقع يقول غير ذلك. فقضية فلسطين وقضية المسجد الأقصى صارت عند كثير من المسلمين شأنًا فلسطينيّا خاصّا، لا يهمّهم من قريب أو بعيد، وهذا أمر عجاب!.

من اللطائف هنا أنّ سورة الإسراء بدأت بقوله تعالى: {سُبْحَانَ}، وهي بداية تُنبئ عن كلام على أمر يتعجّب النّاس من مثله، يقول العلامة الطّاهر بن عاشور: “الافتتاح بكلمة التّسبيح من دون سبق كلام متضمّن ما يجب تنزيه الله عنه يؤذن بأنّ خبرًا عجيبًا يستقبله السّامعون...”. وهذا الخبر العجيب هو رحلة الإسراء والمعراج الّتي يتعجّب من مثلها الكافرون بقدرة الله جلّ في علاه. وقد يكون هذا التّعجب المومئ إليه يشمل فيما يشمل موقف المسلمين في عصرنا من المسجد الأقصى وتهاونهم في نصره، وخذلانهم لأهله، وتركهم الصّهاينة يعبثون فيه مع قراءتهم لسورة الإسراء ولغيرها من الآيات المنوّهة بشأن الأرض المباركة فلسطين!. وإذا كانت فلسطين مباركة وما حول المسجد الأقصى مباركًا فلا تسأل عن بركته هو!، وهذه المباركة من الله تعالى توجب على المؤمنين الصّادقين أن يحافظوا على هذه البركة ولا يسمحوا لأيّ كان أن ينتقص منها أو يدنّسها!.والأخطر في الأمر أنّ السياسة الخبيثة لعبت لعبتها، إذ عملت الدول الكبرى ومن يسير في ركابها من الدول العربية على انقسام الفلسطينيين إلى تيارات وأحزاب... ولمّا انقسموا جاء هؤلاء بالفكرة الغريبة الظالمة الآثمة الّتي تسويّ بين الفلسطينيين بحجّة هذا الانقسام، وهكذا استوى المقاوم الشّريف والخائن الخسيس. وصكّت آذاننا الأصوات الناعقة بالباطل تردّد ترديد البغاء بأنّ الفلسطينيين يتصارعون على الحكم والسلطة فما لنا وما لهم!. وهكذا تشوّه الحقائق، وهكذا تضيع الحقيقة، وهكذا يتمكّن المشروع الصهيوني بمساعٍ عربية إسلامية!.إنّنا نعلم جميعًا أنّ قضية فلسطين تمرّ بمرحلة خطيرة حاسمة، وأنّ الاحتلال الصهيونيّ -برعاية وكيل الاحتلال والاضطرابات في العالم: الولايات المتحدة- يسعى لتصفية القضية مستغلًا الظروف والأحداث، خاصة مع الخيانة العلنية لدول الخليج، والّتي تسندها بلا شكّ خيانات سرية لدول أخرى. ونعلم جميعًا أيضًا أنّ القدس والمسجد الأقصى هو عقدة القضية، وأنّ الصهاينة يرون في الظروف الراهنة فرصة لا تتكرّر لتصفية قضية الأقصى المبارك، وهم لن يتورّعوا ولن ينتظروا كثيرًا لاتخاذ الخطوة الحاسمة، والّتي إن لم تصل إلى هدمه لبناء هيكلهم المزعوم، فستكون قرارًا بالتقسيم على شاكلة قرارهم الظالم في حقّ المسجد الخليلي بالضفة الغربية.ولا يتعجبنّ متعجب ممّا أقول، فمن يطّلع على الحفريات الّتي تمّت تحت أساسات المسجد الأقصى يعلم سهولة هدمه إن أرادوا، وإن كان الخبث الصهيوني سيختار فيما أحسب تقسيم الأقصى، والاستيلاء على جزء منه لإقامة هيكلهم المزعوم كخطوة أولية لإزالته والاستحواذ عليه كليّا... فأين المسلمون من كلّ هذا؟للأسف، إنّ الدعاية الصهيونية والأمريكية والغربية والعربية الخائنة استطاعت أن تخترق عقول وقلوب كثير من المسلمين، وجعلتهم من أنصار الصهاينة علانية أو سرّا. واستطاعت تحييد عقول وقلوب كثير من المسلمين وجعلتهم يهتمون بالتّوافه وسفاسف الأمور: كرة القدم العالمية الّتي لا ناقة لنا فيها ولا جمل، السينما والمسلسلات، الموضة والفن... وللأسف أيضًا أنّنا نحن المسلمين فينا ما فينا من نقائص وعيوب، وخمول ولا فاعلية، وتفرّق وتشردم.للأسف، أنّ أقول جوابًا عن سؤال العنوان: ماذا لو هُدّم المسجد الأقصى المبارك أو قُسّم؟!. سيكون حالنا غريبًا، يفرح بعض الخونة ظنًّا منهم أنّ قضية فلسطين قد انتهت، فلا يُطالبون بعد ذلك بجهد ولا تضحية!. وسيحزن بعض منّا حزنًا يقطع نياط قلبه، ويغرق في بحر التّشاؤم انتظارًا لقيام السّاعة!. وسيتحرّك الجمهور الأعظم في احتجاجات ومظاهرات ومسيرات وما في وسعهم فعله، لكن يتحرّك الكيد بالموازاة مع ذلك، وسينفجر كلام طويل وعريض حول حكم المسيرات والمظاهرات، وهل تجوز أم لا تجوز؟، ويستغل الشّرع الكريم في صرف المسلمين عن قضيتهم وإدخالهم في دوامة الجدال والمراء، ويتسبّب ذلك في تشكّك البعض، وفي انقسام وجهات النّظر، وفي اختلاف المواقف، ونسيان القضية الأساسية الّتي من أجلها كانت الاحتجاجات، ونسيان المعركة الحقيقية والاشتغال بالمعركة الجدلية.. فتخفّ المظاهرات والمسيرات شيئًا فشيئًا، ويرجع الكلّ إلى رتابة (أي روتين) حياته اليومي. ويسلّم الجميع بالواقع البئييس.!أقول هذا ولست متشائمًا، وإنّما أقول ما أقول تنبيهًا إلى ما نعيشه واقعيًّا، وما يراد لنا أن نسير فيه!. إذ هذا هو حالنا مع كلّ قضيانا الكبرى، ننتقل مباشرة من التّفاعل الإيجابي والتحرّك الفعلي إلى الجدال والنقاش حول شرعية ما نفعل، ويتحوّل الانتصار للرأي هو المعركة الرئيسة وننسى المعركة الأساسية، ونتركها لأعدائنا وخصومنا يقرّرون ما يشاؤون ويفعلون ما يشاؤون في راحة وطمأنينة!.نعم، لقد نبتت نابتة استطاعت أن تفرض علينا الجدال العقيم في أحكام الشّرع الكريم، وقدّمَت للأعداء خدمة جليلة بصرف القوى الحيّة في الأمّة -خاصة الشباب- عن القضايا الخطيرة والمهمّة الّتي تؤثّر في واقعنا ومستقبلنا إلى الجدال والمراء حولها، والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما ضلّ قوم بعد هدى إلّا لقّنوا الجدل» ثمّ قرأ: {ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} الزُّخْرُف:58» رواه أحمد وابن ماجه وغيرهما.ولكن بعد كلّ هذا الحمد لله ما زال في الأمّة الرّجال، رجال الأفعال والأعمال، مع وجود عشّاق الجدال. والواجب علينا هو الانتباه إلى ما ذكرت من شغلنا عن المهمّات والقضايا الكبرى بالجدال حولها أو بالجدال حول معارك جانبية؛ لأنّ هذا الأمر ليس خاصًا بقضية المسجد الأقصى وفلسطين بل هي خطّة عامة في كلّ قضية ذات بال وخطر. والله يحفظ المسجد الأقصى وفلسطين وكلّ بلاد المسلمين.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات