+ -

لا يوجد شخص يرفض الإصلاح، والانتقال إلى الأفضل، والتّغيير إلى الأحسن، إلّا شواذ ممّن يستفيدون من بقاء الأوضاع على حالها، ولو كان في ذلك خراب البلاد وضياع العباد، وهؤلاء قِلّة، وإن كانوا في الغالب من ذوي النّفوذ!. لكنّ الأصل أنّ الإنسان السّويّ سيكون دائمًا مع الإصلاح الّذي لا يأتي إلّا بخير.

هذا القدر لا يختلف فيه النّاس. وإنّما يختلفون غالبًا في مناهج الإصلاح ووسائله ومناهجه ومشاريعه، وهذا باب اجتهاد وَسِيع، وميدان تنافس فسيح، للمصيب فيه أجران، وللمخطئ أجر واحد.بيد أنّنا نجد أغلب المنادين بالإصلاح وأغلب العاملين للإصلاح يتّفقون اتفاقًا عجيبًا في نقطة مفصلية من نظرتهم للإصلاح وطريقه، فهم غالبًا ما يختزلون سبب الفساد في نقاط سطحية موغلة في التعميم والتعويم، كالجهل وقِلّة الوعي... وغيرها من قوالب التحليل الّتي تلوكها ألسنة محترفي التحليل الإعلامي أو العلمي بزعمهم!.وبناء عليها يذكرون حلولًا من قبيل هذه الأسباب سطحية وهمية، كالتعليم -أيّ تعليم كان!- ونشر الوعي والتّوعية، وإضافة أشياء أو آلات إلى الواقع القائم، لا تؤثّر فيه بل تتأثّر به!. ولا شكّ أنّ هذه السطحية تسبّبت وتتسبّب في ضياع الكثير من الجهود، وفوات الكثير من الفرص، وقتل الكثير من الأمل، وهدر الكثير من الإمكانات...والحقيقة أنّ الإصلاح طريق طويل.. شاقٌّ ومُكلّف!، جهاد لا هوادة فيه!، وبذل دائم!، وتضحية جليلة!، وتعب مستمر!، ولا تقدر عليه وعلى تبعاته إلّا النّفوس العظيمة!، والعقول الكبيرة!، والعزائم الشّديدة!، والإرادات الصُّلبة!. وصدق من قال: الطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النّار الخليل، وأُضجع للذّبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السّجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيّد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيّوب، وزاد على المقداد بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمّد صلّى الله عليه وسلّم وعلى جميع الأنبياء.وممّا ينبّه على هذا المعنى، أن يكون في أوّل ما أنزل من القرآن العظيم، قول الله تبارك وتعالى لنبيّه عليه السّلام: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}، يقول الشّيخ عبدالكريم الخطيب رحمه الله في تفسيره: “{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} هو بيان للسّبب الّذي من أجله دعي النّبيّ إلى قيام اللّيل، وإلى نزع ثوب الدّعة والسّكون.. إنّه صلوات الله وسلامه عليه -سيواجه-بعد اصطفائه بالرسالة- أمرًا عظيمًا، وإنّه سيكلّف أداء مهمّة شاقّة، تحتاج إلى أن يبذل لها كلّ جهده، وأن يقوم عليها في كلّ لحظة من حياته، ليلًا ونهارًا.. فهذا القول الّذي سيلقى عليه، وهو القرآن الكريم، هو قول ثقيل بما يحمل من تكاليف، هي عبء ثقيل عند كثير من النّاس، كما أنّها حمل ثقيل على النّبيّ في حملها إلى النّاس، ودعوتهم إليها..إنّ عهد النّوم باللّيل قد انتهى!؛ فليوطّن النّبيّ الّتي نفسه منذ الآن على الجهاد، وحمل هذا العبء، وليأخذ للموقف عدته، وإلّا ضعف عن حمل الرّسالة، وأداء أمانة تبليغها، وقد علم أنّ إخوانه من الرّسل، قد أبلغوا رسالات ربّهم، وما كان له أن يقصر عنهم، وهو خاتمهم، وسيّدهم.وهذا التّنبيه من الله سبحانه لنبيّه الكريم، بما سيلقاه على طريق رسالته، من صعاب، وما يحمله في سبيلها من أعباء، هو الّذي يهيّىء النّبيّ جسميّا ونفسيّا للمهمّة الخطيرة الّتي نيطت به، وألقيت عليه..”.وهذا سبيل كلّ مصلح، وسبيل كلّ إصلاح. ويعلّق سيّد قطب رحمه الله على هذه الآية فيقول: “وإنّها لكلمة عظيمة رهيبة تنتزعه -صلّى الله عليه وسلّم- من دفء الفراش، في البيت الهادئ والحضن الدافئ؛ لتدفع به في الخضم، بين الزعازع والأنواء، وبين الشدّ والجذب في ضمائر النّاس وفي واقع الحياة سواء.إنّ الّذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنّه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا. فأمّا الكبير الّذي يحمل هذا العبء الكبير.. فماله والنّوم؟، وماله والرّاحة؟، وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟، والمتاع المريح؟!. ولقد عرف رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حقيقة الأمر وقدّره، فقال لخديجة -رضي الله عنها- وهي تدعوه أن يطمئن وينام: «مضى عهد النّوم يا خديجة»!، أجل مضى عهد النّوم وما عاد منذ اليوم إلّا السّهر والتّعب والجهاد الطويل الشّاق!”.وعلى هذا، فالّذين يتحدّثون عن الإصلاح والتّغيير بسطحية، دون بذل لِمَا يجب في سبيله من بذل وجهد وعمل هم واهمون حالمون، فـ{إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}. والّذين يبذلون جهودًا يسيرة ويقدّمون تضحية صغيرة ثمّ ينتظرون تغييرًا جذريًّا وإصلاحًا كاملًا أشدّ وهمًا وأغرق في الأحلام!. وأحسب أنّنا نحن الجزائريين الشعب الوحيد الّذي يريد أن تنصلح حاله لكن دون أن يبذل جهدًا في سبيل الإصلاح!، ودون أن يشارك في الإصلاح ويتعاون مع المصلحين!، ودون أن يصلح من نفسه وحاله شيئًا!، ودون استعداد من أفراده لإصلاح ما اعوّج منهم سلوكًا وعادة وتفكيرًا!، وهذا ما لا يكون أبدًا؛ فإنّ الدّول الّتي تطوّرت وأصلحت من حالها إنّما وصلت لذلك بالعمل الجاد، والجهد الدّائب، والبذل المتواصل لسنوات لا لأيّام وساعات!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات