+ -

في الثمانينات جرت مناقشات جدية وجادة حول حكاية إقامة اتحاد المغرب العربي... وبرز الحديث عن استحالة إنجاز اتحاد بين نظام جمهوري جزائري ونظام ملكي مغربي، وإذا تم هذا في أوروبا فلن يتم عندنا، لأن الملكيات الأوروبية هي في النهاية جمهوريات وليست ملكيات، أما عندنا فالأمر مختلف... وقد ناقشت هذا الموضوع مع كاتب مغربي فقال لي تحولوا أنتم في الجزائر إلى ملكية أسهل من تحولنا نحن في المغرب إلى جمهورية، فقلت له ضاحكا: نحن الآن نظام ملكي أكثر منكم في المغرب.. فأنتم يحكمكم ملك واحد... ونحن يحكمنا “ملك جماعي” (روا كوليكتيف) يسمى الجيش، عندكم الله والوطن والملك... وعندنا الوطن والثورة والجيش.. الجيش عندنا مثل الملك عندكم غير قابل للنقد وما عداه يمكن نقده!أنتم تناضلون من أجل مملكة دستورية مثل الأوروبيين، ونحن نناضل من أجل جيش دستوري مثل الجمهوريات الأوروبية... فالأمر سيان عندنا وعندهم.تذكرت هذا النقاش الذي جرى في الثمانينات لما سمعت بأن قيادة الجيش تعمل على تطبيق المادة 102 من الدستور رغم أنف الشعب الذي يطالب بإبطالها، ومعنى هذا الكلام أن الجيش الجزائري لم يعد “روا كوليكتيف” يحكم الجزائر، بل أصبح جمهوريا أكثر من الجمهور نفسه، بإلغاء الجمهور نفسه لصالح دستور وضعته عصابة! أو لنقل جماعة غير دستورية!كل طموح الجزائريين اليوم هو الوصول إلى ملكية دستورية فيها الملك الجماعي الذي هو الجيش يترك الشعب ينظم حياته السياسية والاقتصادية بعيدا عن الملكية المطلقة التي يمارسها الجيش على الشعب الجزائري وفق دستور تضعه عصابات على مقاس رئيس العصابة!نحن الآن في مرحلة نطمح فيها إلى قوانين شعبية تشبه القوانين التي كانت سائدة في عهد الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت.. الذي كان يقول للشعب الفرنسي: الدولة هي أنا... ومع ذلك تفضل على الشعب الفرنسي بمجالس شعبية منتخبة فيها شيء من الحرية والديمقراطية، لعلها تشبه الحرية والديمقراطية التي ستعطى للجزائريين في القرن الواحد والعشرين!نابليون هذا هو الذي وضع شعار “الديك” السردوك للجيش الفرنسي، وهو الذي حوله إلى شعار للدولة الفرنسية فيما بعد.. وهو الذي فرض على كل ثكنات الجيش الفرنسي بأن تربي “عتروسا” داخل الثكنة، وأن تخصص له الثكنة أهم “كابران” عسكري، عريف.. ليعتني بأمور العتروس أكلا ونظافة.. لأن العتروس رمز من رموز القوة العسكرية الفرنسية مثله مثل الديك... السردوك.وفي بداية الخمسينات من القرن الماضي، التحق أحد الجزائريين بجيش فرنسا “مڤاجي” في ثكنة فرنسية بتبسة، ولنباهته وشطارته كُلّف كعريف في الجيش الفرنسي بالعناية بعتروس الثكنة، وقام بهذه الوظيفة حتى اندلعت الثورة، فالتحق بالجبل، وأبلى البلاء الحسن في الثورة، وجاء الاستقلال فوجد نفسه عضوا في مجلس الثورة، ورُقي إلى رتبة لواء في الثمانينات، وأحيل على المعاش في التسعينات، وأصيب بمرض الشيخوخة.. فاشترى عتروسا وجلبه إلى بيته في أعالي العاصمة.. وكان كل يوم يلبس بدلة لواء ويؤدي التحية العسكرية للعتروس، كما كان يفعل قبل 50 سنة، فيما يسمى في علم النفس المرضي بعودة السن.سردت هذه القصة ليس للترف، ولكن لتدبر المعاني التي ينبغي استخلاصها لفائدة البلد في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات