+ -

شرعُ الله تعالى يقصد فيما يقصد إليه من الأهداف الكبرى والغايات العالية إلى الوصول بالمسلم إلى درجة التّقوى، وإلى حمايته من هوى نفسه، يقول الإمام الشّاطبيّ رحمه الله: ”المقصد الشّرعي من وضع الشّريعة إخراج المكلّف عن داعية هواه، حتّى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا”.هذا المقصد العظيم نجده في كلّ ما شرعه الله وبيّنه للنّاس؛ لأنّ الهوى داء وبيل ومرض عضال يدمّر كينونة مَن يسيطر عليه من البشر، حتّى يصل به إلى حال غريبة حدثنا عنها القرآن: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ}. وفي المقابل؛ لأنّ التّقوى هي معيار قبول الأعمال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِين}، وهي لا تجتمع والهوى أبدًا، قال الإمام ابن عجيبة رحمه الله: ”وجِمَاعُ التّقوى هي مخالفة الهَوى، ومحبّة المولَى عزّ وجلّ”. وأخطر ما في الأمر أن يتسربل الهوى بلَبُوس التّقوى، فيكون العبد عاملًا في هواه باطنًا، مدعيّا التّقوى ظاهرًا!.وما دام حديثنا عن الحجّ فإنّنا نعلم أنّ الله تبارك وتعالى حينما أكدّ فريضة الحجّ، قال وقوله الحقّ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}. فالمقصود بالحجّ هو هذه التّقوى العزيزة الّتي يحرص الحاج والمعتمر على بلوغ درجتها، وصبغ حياته بها، ولكن يوجد من غابت عنه هذه المعاني الجليلة والمقاصد النّبيلة كما قال الإمام ابن الجوزيّ رحمه الله: ”وإنّما المراد من الحجّ القُرب بالقلوب لا بالأبدان، وإنّما يكون ذلك مع القيام بالتّقوى. وكم من قاصد إلى مكّة همّته عدد حجّاته؟!، فيقول: لي عشرون وقفة. وكم من مُجاورٍ قد طال مُكْثُه ولم يشرع فِي تنقية باطنه؟!”.لست هنا في مقام اتّهام النّاس -حاش وكلاّ- ولكنّي في مقام التّنبيه والتّذكير والتّناصح؛ لأنّ موضوع اختفاء الهوى وراء التّقوى موضوع دقيق خطير، لا ينتبه له عامة النّاس مع التّنبيه والتّحذير، فكيف مع عدم وجودهما؟!. وانظروا إلى الواقع حين تجد إنسانًا يحرص على الحجّ -وهذا شيء ممتاز- ولكنّ لم يأت رزقه فلم يفز بقُرعة الحجّ، فتراه يبحث عن طرق أخرى، وبعضهم يصل إلى طرق غير مشروعة بل محرّمة، كشراء جواز السّفر بمبالغ طائلة، حتّى وُجدت شبكات تتاجر بالجوازات، ودفع رشا للحصول على تأشيرة مجاملة أو غير ذلك من المعاملات المتجدّدة.. والعلماء المعاصرون متّفقون على أنّ المنع القانونيّ لا تتحقّق معه الاستطاعة المشروطة في الحجّ. فهل مَن يفعل هذا تحرّكه التّقوى الّتي توقفه عند حدود الله أم الهوى الّذي يجرِّئُه على حدود الله؟!وحين تجد إنسانًا يحجّ كلّ سنة -طبعًا السّؤال من أين يأتي بجواز سفر الحجّ أو التّأشيرة؟ هذا يحتاج إلى مداخل ومخارج!- وتسأله عن ذلك كما حدث لي مع أحدهم، قال لي: إنّه يحجّ منذ سبع سنوات ويأتي للعمرة في العشر الأواخر، قلتُ: ما شاء الله، ولكن هل فتّشتَ حولك فربّما هناك من أقاربك وجيرانك مَن يحتاج إليك وقد أدّيتَ حجّة الإسلام؟ فقال: صراحة، حين يصل العشر الأواخر أو وقت الحجّ، نفسي لا تطيب بشيء إلاّ بالذّهاب إلى المشاعر، ولا يهمنّي بعد ذلك أيّ شيء! قلتُ: صِرت تجد لذّة خاصة؟ قال: نعم. قلتُ: لا تتقبّل فكرة ضياعها منك؟ قال: نعم. قلت: وكأنّك مدمن؟ قال: تقريبًا! فقلتُ: هل هذا هوى نفس أم أنوار تقوى؟ قال: والله لا أدري! هذا الحوار حاولتُ نقله بدقّة كما جرى، وهو يعطي صورة لبعض النّاس (ولا أعمّم هذا على كلّ من يكرّر الحجّ والعمرة) الّذين يكرّرون الحجّ والعمرة غافلين عن هذا المقصد العظيم مقصد التّقوى، ويلبّس عليهم إبليس فيتملّكهم الهوى في صورة من التّقوى، وهذا أخطر الهوى! والهوى خطر كلّه!إنّ واقع النّاس مليء بصور مشرقة للمتّقين، ومليء بصور صاعقة لأصحاب الهوى، كما هو مليء بصور خادعة من الهوى المتلبّس بالتّقوى ممّا يتطلّب من العبد أن يكون يَقِظًا حذِرًا من شراك الهوى وحبائل إبليس، وخاصة في الحجّ الّذي شرعه الله جلّ شأنه سبيلًا للتزوّد بالتّقوى.

*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات