+ -

أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: أتيتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلتُ: ابسط يمينَك فلأُبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: “ما لك يا عمرو؟” قال: قلت: أردتُ أن أشترط، قال: “تشترط بماذا؟”، قلت: أن يُغفر لي، قال: “أما علمت أنّ الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأنّ الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأنّ الحجّ يهدم ما كان قبله”؟.نوَّع ربّنا سبحانه الطّاعات ليكون المكلّف في عبادة مستمرّة، وليُعظَّمَ الخالق في كلّ حين، فما أن ينتهي موسم إلّا ويعقُبُه موسم آخر، يُظهر العباد فيه توحيدهم لخالقهم ويتذلّلون بين يديه، فشرع سبحانه أطول عبادة بدنية متصلة يتلبَّسون بها أيّامًا لإظهار إفراد الله بالعبادة وحده، وأنّ عبادة ما سواه باطلة، فمن أدّاها كما أمره الله عادت صحائف أعماله بلا أدران ولا خطايا: “مَن أتى هذا البيت فلم يرفُث ولم يفسُق رجع كيوم ولدته أمّه”.ويتعرّض الحجيج في هذه العبادة لنفحات ربّهم في مكان عظيم، وفي يوم هو أكثر أيّام تعتق فيه الرّقاب من النّار: “ما من يوم أكثر من يُعتِقَ الله فيه عبدًا من النّار من يوم عرفة، وإنّه ليَدنو ثمّ يُباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟”، فمَن كان حافظًا لحجّه ممّا حرّم الله وعده الله بالجنّة، قال عليه الصّلاة والسّلام: “الحجّ المبرور ليس له جزاء إلّا الجنّة”.إنّ الحجّ ركن عامر بالمنافع والعبر، فقد أمر سبحانه فعله في أطهر بقعة وأشرفها، ليجتمع شرف العمل مع شرف المكان، فخليل الرّحمن إبراهيم بنى فيها بيت الله وأسّسه على التّقوى والإخلاص: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وأبقى الله ما بناه إبراهيم ليرى العباد أنّه لا يبقى من العمل إلّا ما كان خالصًا لوجهه الكريم.وفي التلبُّس بالإحرام دعوة للنّفس إلى عصيان الهوى؛ فلا لبس مخيط، ولا مسَّ طِيبٍ، ولا خِطبةَ نكاح، وسواد الحجر الأسود تذكير للعباد بشؤم المعصية، وعظم أثرها على القلب، عن الترمذي يقول عليه الصّلاة والسّلام: “نزل الحجر الأسود وهو أشدّ بياضًا من اللّبن، فسوّدته خطايا بني آدم”.والحجّ إعلام بأنّ الإسلام هو الدّين الحقّ، فلا ترى خَلقًا يجتمعون من بقاع الأرض على تباين أجناسهم وأوطانهم وطبقاتهم إلّا في الحجّ، وهذا لا شكّ من عظمة الإسلام.وفي أداء هذا الرّكن العظيم انتظام عبادة بعد أخرى، فعبادة باللّيل كالمبيت بمزدلفة، وأخرى بالنّهار كالوقوف بعرفة، وعبادة باللّسان بالتّكبير والتّلبية، وأخرى بالجوارح كالرّمي والطّواف، وفي هذا إيماء إلى أنّ حياة المسلم كلّها لله.وممّا يدلّ كذلك على فضل الحجّ ما يكون فيه من إقامة لذِكر الله والتقرّب إليه بالهدي والذّبائح، قال صلّى الله عليه وسلّم: “أفضل الحجّ: العجّ والثجّ”، العجّ: رفع الصّوت بالذِّكر، والثج: الدم والذّبائح.ومن فضائل الحجّ تذكّر ذلك اليوم العظيم الّذي وقف فيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم مودّعًا، فخطب في النّاس خطبته العصماء: “أيّها النّاس: أيُّ يوم هذا”؟ قالوا: يوم حرام، قال: “فأيّ بلد هذا”؟ قالوا: بلد حرام، قال: “فأيّ شهر هذا”؟ قالوا: شهر حرام، قال: “فإنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحُرمة يومِكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا”، فأعادها مرارًا، ثمّ رفع رأسه فقال: “اللّهمّ هل بلّغْت، اللّهمّ هل بلّغْت”.*إمام مسجد عمر بن الخطاب – بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات