المناسبات الدّينيّة بين مقصد الوحدة ومسار التّفريق

+ -

لا يجهل أحد أنّ من أجلّ مقاصد دين الله عزّ وجلّ توحيد المؤمنين على كلمة سواء، هذا أمرٌ ظاهر في كلّ أحكام الشّرع وكلّ تعاليمه، بل هو مصرّح به في أكثر من آية من آيات الذّكر الحكيم، يقول الحقّ تقدّست أسماؤه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، ومصرّح به في أكثر من حديث من أحاديث الحبيب صلّى الله عليه وسلّم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمى»، «إنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشدّ بعضه بعضًا» إلى غيرها من النّصوص الشّرعية، وهي كثيرة وفيرة شهيرة.ولا يخفى على أحد أنّ الأعياد الدّينية ومواسم الطّاعات وذكريات التّاريخ الإسلاميّ من أعظم المناسبات الّتي تظهر وحدة المسلمين، أو قلّ تذكّرهم بوحدتهم، وتؤجّج مشاعر الأخوة والوحدة الدّينية بينهم، وتثير عواطفهم الّتي أضعفتها الأحداث والمصائب، فهذه الأعياد والمناسبات فرصة كبيرة لتجديد ما خلق، وتقوية ما ضعف، والتّذكير بما نُسي من الوصايا الرّبّانية والتّوجيهات النّبويّة للمؤمنين حتّى يكونوا أمّة واحدة متآخين مجتمعين على كلمة سواء.بيد أنّ داء التّخلّف حين يصيب أمّة يتخلّف فيها كلّ شيء، حتّى فهمها للدّين وتطبيقها لتعاليمه، بل حتّى بعض علمائها يصيرون متخلّفين في تفكيرهم وفي فهمهم للدّين وفي دعوتهم له!، وهذا ما يفسّر تحوّل هذه الأعياد والمناسبات إلى بؤر توتّر في علاقة المسلمين بعضهم ببعض، ومحطات تفرقة وتشتّت بدل أن تكون منارات اجتماع وتوحّد كما هو مقصد الشّرع من شرعها!. فما نتنسّم نسائم موسم من مواسم الطّاعة، وما يهلّ هلال شهر مبارك من أشهر العبادات والأعياد حتّى تنطلق معارك الجدال والمراء، وما يتبعها من خصومات ومقاطعات، وتضليل وتفسيق وتبديع، بسبب قضايا فقهية فرعية جزئية، المخطئ فيها معذور مأجور بنصّ حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «.. وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر»!، والخلاف فيها قديم من زمن الصّحابة إلى زمن أئمة المذاهب المتبوعة. ولم تكن سببًا لإثارة الشّقاق والمسلمين في القرون الفائتة حتّى جاء هذا الزّمن النّكد، وظنّ بعضهم أنّ في مُكنتهم حسمَ الخلاف في مسائل اختلف فيها الصّحابة والأئمة بعدهم، وكأنّي بهم يرون أنفسهم خيرًا من هؤلاء السّادة!، وهيهات هيهات!.والحقّ أنّ سبيل السّلف الذّي سلكوه هو تقبّل الرّأي المخالف واحترامه واعتباره، وعدم تفريق المسلمين بسبب الخلافات الفقهية، بل التّنازل عن الرأي وترك المندوبات -وربّما بعض الواجبات في بعض الأوقات- رعيًّا لأخوة المسلمين وحفظًا لوحدتهم، حتّى لا يهدم الانتصار في مسألة جزئية مختلف فيها مقصدًا من مقاصد الدّين المتّفق عليها، فمن سار على هذا النّهج والسّبيل فهو المتّبع لهم، ومن تنكّب هذا الطّريق فهو على غير نهجهم وسبيلهم وإن ادّعى وادّعى. وها هو الإمام مالك رحمه الله يُعلّمنا قبول الرأي المخالف واحترامه واعتباره، وعدم السّعي لإخضاع الأمّة جميعًا لرأي بعض العلماء مهما بلغ قدرهم، في القصة المشهورة عنه: قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: “لَمّا حجّ أبو جعفر المنصور [الخليفة العباسيّ] دعاني، فدخلتُ عليه فحادثته، وسألني فأجبته، فقال: إنّي قد عزمتُ أن آمر بكتبك هذه الّتي وضعتها -يعني الموطأ- فتنسخ نسخًا، ثمّ أبعث إلى كلّ مصر من الأمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها لا يتعدّوه إلى غيره، ويدعوا ما سوى ذلك من هذا العلم المحدث، فإنّي رأيتُ أصل العلم رواية المدينة وعلمهم. قال فقلتُ: يا أمير المؤمنين لا تفعل هذا، فإنّ النّاس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كلّ قوم بما سبق إليهم، وعملوا به. ودانوا به من اختلاف النّاس وغيرهم، وإنّ ردَّهم عمّا قد اعتقدوه شديد، فدع النّاس وما هم عليه، وما اختار كلّ أهل بلد منهم لأنفسهم”.ولكن للأسف، كثيرُ من العلماء والدّعاة والمعاصرين، وأكثر خطباء المساجد عندنا لم يصلوا إلى هذا الفقه بعد!، ولو فقهوا مثل فقه السّلف لتركوا كلّ أهل بلد وما اختاروه لأنفسهم!. وبعد الإمام مالك رحمه الله بقرون يأتي إمام كبير آخر من أئمة المسلمين ليضع لنا معلمًا آخر من معالم الفقه وحفظ مقصد الوحدة والأخوة وتقديمه على الانتصار في مسائل جزئية فرعية، حيث يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: “ولا يجوز التّفرقّ بذلك [يقصد الخلافات الفقهية] بين الأمّة، ولا أن يُعطى المستحبّ فوق حقّه، فإنّه قد يكون من أتى بغيّ ذلك المستحبّ من أمور أخرى واجبة ومستحبّة أفضل بكثير، ولا يجوز أن تجعل المستحبّات بمنزلة الواجبات، بحيث يمتنع الرّجل من تركها، ويرى أنّه قد خرج من دينه وعصى الله ورسوله، بل قد يكون ترك المستحبّات لمعارض راجح أفضل من فعلها، بل الواجبات كذلك. ومعلوم أنّ ائتلاف قلوب الأمّة أعظم في الدّين من هذه المستحبّات، فلو تركها المرء لتأليف القلوب كان ذلك حسنًا، وذلك أفضل، إذ كانت مصلحة تأليف القلوب فوق مصلحة ذلك المستحبّ”.وليس بعد هذا البيان وبيان، ولكن الفقه في دين الله اصطفاء واختيار، فليس كلّ من حشر نفسه في طريق العلم يبلغ مراده إلّا من يرد الله به خيرًا: «مَن يُرِد الله به خيرًا يُفَقِّهه في الدّين».* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات