لا تتّبعوا خطوات الشّيطان.. لا تتّبعوا الشّيطان!

+ -

نقرأ في القرآن العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُون}، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين}، {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ..}. الخَطْو: هو الـمَشْي، خَطَا خَطْواً: مشى. والخَطْوة بالفتح: المرّة من الخطو. والجمع خَطَوَات. والخُطْوة: هي مسافة ما بين القدمين. وتجمع جمع كثرة على: خُطاً، وتجمع جمع قِلّة على: خُطُواتٌ وخُطَواتٌ وخُطْوات.ولا يخفاك حكمة استعمال القرآن الكريم هنا لجمع القِلّة إيماءً إلى أنّ السقوطَ والـهُويَّ في طريق إبليس قد يبدأ بخطوات صغيرة قليلة، حتّى لا يستهين العبدُ بمعصية الله عزّ شأنه مهما صغرت ومهما قلّ عدد مرات اقترافها!.ثمّ إنّ أظهر ما يلفت النّظر في هذه الآيات الجليلة قولُه تعالى: {ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} فالمعنى: لا تتبعوا الشّيطان، ولكنّ الله جلّ شأنه يقول: {ولا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}، وفي هذا من الحِكم الباهرة الشّيء الكثير، ومن قوّة الدلالة وعمقها الأمر الجلل، وفيه تنبيه هام وإشارة بالغة للنّاس حتّى يحذروا. من ذلك أنّ استخدام كلمة (خطوات) فيه إشارة إلى أنّ الخطوة مسافة قصيرة يسيرة صغيرة؛ وهكذا الشّيطان يبدأ في إغواء الإنسان وإضلاله بالشّيء اليسير من المعاصي والإثم يزينه له ويوسوس به، حتّى تألفه نفسه ويهون عنده ويعتاده، ثمّ يأخذه إلى الأكبر فالأكبر حتّى يصل به إلى اقتراف كبائر الإثم أو الكفر والشّرك. وفيه إشارة أيضًا إلى أنّ الشّيطان في إغوائه بني آدم لن يقف معهم عند أوّل خطوة في طريق العصيان، وإنّما يدعوهم لمعصية تتلوها معصية حتّى يستحوذ عليهم فينسيهم ذكر الله تعالى. والشّيطان كذلك لا يصرّ على معصية بعينها، فإن رأى الإنسان قد امتنع عن معصية (خطوة ما)، فهو يزيّن له معصية أخرى (خطوة أخرى)؛ لأنّه يريد الإنسان عاصيًا على أيّة جهة.قال الإمام السيد طنطاوي رحمه الله في بيان هذا المعنى: ”وفي قوله: {ولا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} إشعارٌ بأنّ الشّيطان كثيرًا ما يجرّ الإنسان إلى الشرّ خطوة فخطوة ودرجة فدرجة حتّى يجعله يألفه ويقتحمه بدون تردّد، وبذلك يكون ممّن استحوذ عليهم الشّيطان فأنساهم ذكر الله. والعاقل من النّاس هو الّذي يبتعد عن كلّ ما هو من نزغات الشّيطان ووساوسه، فإنّ صغير الذّنوب قد يوصل إلى كبيرها، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه”.وهذا النّهي عن اتّباع خطوات الشّيطان موجهٌ للفرد كما هو موجه للمجتمعات والأمم والجماعات. فالفرد الّذي يصل للموبقات من كفر وشرك أو قتل وفتك أو سحر وشعوذة أو زنا واغتصاب وشذوذ أو شرب للخمور والمخدرات أو غير ذلك من الفواحش الكبار لا يصل إلى هذا الدّرك من العصيان من أوّل يوم، بل غالبًا ما ينحرف عن الصّراط المستقيم ويسلك طريق المعصية شيئًا فشيئًا، وخطوة خطوة، وغالبًا ما يبدأ بخطوات صغيرة قليلة وشيئًا فشيئًا يتجرّأ على المعاصي الكبار والذّنوب العظام. فمثلًا: غالبا ما يسبق تعاطي المرء (ذكرًا أو أنثى) للمخدرات إلمامُه ببعض المعاصي الصغيرة كشرب الدخان، أو ببعض المعاصي البعيدة عن مجال المخدرات كترك الصّلاة، أو ببعض المعاصي الّتي لا يبالي بها النّاس كمصاحبة من يعصي الله تعالى ومجالستهم حال معصيتهم ... أو غير ذلك، وقلّ ما نجد من هجم على المخدرات ابتداءً. وكذلك غالبًا ما يسبق وقوع المرء (ذكرًا أو أنثى) في فاحشة الزّنا إلمامُه ببعض المعاصي الصّغيرة بالنّسبة للزّنا، كعدم الالتزام بستر العورات والتّساهل في التّعريّ وترك اللّباس الشّرعي، والتّساهل في العلاقات بين المرأة والرجل والأحكام الّتي تضبطها حتّى تقع الواقعة وتكون الفتاة هي الضحية في الغالب، وقلّ ما نجد من هجم أو هجمت على الفاحشة ابتداءً.وكذا المجتمعات الّتي تصل للانحلال الأخلاقيّ، والتّفكّك الأسري، وشيوع الفجور والانحراف، واختلال القيم، وسيطرة الروح المادية القاسية لا يحصل لها ذلك في لمح البصر، بل يحدث ذلك شيئًا فشيئًا وخطوة خطوة. فإذا أخذنا المجتمع الياباني كأنموذج باعتباره مضرب المثل في التطور التكنولوجي واحترام قوانين النظام والنظافة بدقة متناهية، فإنّنا نجد أكثر النّاس يغفل عن المعاناة الّتي يعاني منها هذا المجتمع الفريد، من شيخوخة تهدّد وجوده بسبب عزوف رجاله ونسائه عن الزّواج وإنشاء الأسر كما تقتضيه الفطرة، وهذا العزوف ناتج عن شيوع الفاحشة والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج فيه بشكل رهيب، حتّى بين القاصرات وطلاب وطالبات الثانوية، وكذا شيوع العري واللّباس الفاضح بشكل غريب فيه، وشيوع الإلحاد والرّوح المادية الّتي سيطرت على الغالبية الغالبة من أفراده، وكذا فقدانه لقيمه التقليدية واستبدالها بالقيم الغربية المادية الرأسمالية المتوحشة... نعم لقد كانت ضريبة تطوّر اليابان باهظة جدًّا، ولكن المجتمع الياباني لم يصل إلى هذا الدرك من الانحلال الأخلاقيّ دفعة واحدة بل خطوة خطوة. وهكذا غيره من المجتمعات تتبع خطوات الشّيطان خطوة خطوة حتّى تصل إلى الدرك الأسفل من البهيمية الحيوانية، وصدق الله العظيم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لَا تَعْلَمُون}. فهذا خطاب للنّاس جميعًا تحذيرًا من اتّباع خطوات الشّيطان، الّذي هو العدوّ المبين لهم المعلن لهذه العداوة. وهذا تنبيه للنّاس باعتبارهم أفرادًا حتّى لا يتساهلوا مع المعاصي الصغيرة، فيقعوا في المعاصي الكبيرة. وحتّى لا يستهينوا في اقتراف أبنائهم وبناتهم للمعاصي الصغيرة؛ لأنّ ذلك سيجرّهم لمقارفة كبائر الذّنوب، ولات حين مندم. وهذا تنبيه للنّاس باعتبارهم جماعات ومجتمعات حتّى لا يتساهلوا في المعاصي الّتي تنتشر فيه والانحراف الّذي يظهر فيه؛ لأنّه قد يصل بذلك إلى الدّمار. وهو تنبيه إلى دعاة التّغريب والعلمنة عندنا خاصة أنّ سعيهم لتغيير مجتمعنا بتغريبه واستبدال قيمه الإسلامية بالقيم الغربية المادية سيوصلنا إلى ما وصل إليه الغرب من شيوع الفاحشة، وانتشار الشّذوذ، وذيوع الخمور، وانتشار المخدرات، وسقوط الأخلاق حتّى لا يبقى حياء ولا عفّة. وتتفكّك أغلب الأسر، ولم يعد للعلاقات الأسرية وصلة الأرحام معنى ولا حضورًا، بل صار أغلب النّاس لا يعرفون أنسابهم ولا من هم آباؤهم بسبب شيوع الخيانة الزّوجية وشيوع الفاحشة عامة.. ولا تسبّوا أنّنا نتّبع خطواتهم ولا نصل إلى ما وصلوا إليه!* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات