+ -

هذا أنموذج من البشر متكرّر، تلتقي معه ربّما كلّ يوم، وربّما مرّات في اليوم!، أنموذج للشّخص الّذي يتكلّم في كلّ شيء!، ومطلّع على أسرارٍ في كلّ الشّؤون!، وله مقدرة على تحليل كلّ الظواهر في كلّ مجالات الحياة!، فإذا شئت فهو خبير سياسي، ينبئك بأسرار الجلسات السرية بين علية القوم!. وإن شئت هو محلّل رياضي، يطّلعك على أسرار كواليس الكرة في العالم أجمع!. وإن شئت هو عالم دين يفتيك في أعوص المسائل الّتي اختلف فيها العلماء، بل يصنّف لك العلماء يرفع منهم من يشاء ويسقط من يشاء!. وإن شئت هو اقتصادي كبير، يملك مفاتيح التنمية بيد والملفات الاقتصادية السرية بيد!. وإن شئت هو قانونيّ ضليع يحفظ الدستور والقوانين وحتّى التعليمات!...لستُ مبالغًا في هذا التّوصيف، فكلّ واحد منّا حتمًا يعرف واحدًا أو أكثر ممّن ابتُلي بهذا البلاء، وللحقّ فهذا الصّنف موجود في عامة النّاس وفي النخبة المثقفة، ولكن أحسب أنّه في النخبة أكثر منه في عوام النّاس، خاصة أنّهم لا يستترون، بل بعضهم يأتي للفضائيات ليستعرض خصيصته المتميزة بأنّه يعرف كلّ شيء!.قال الحقّ سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}، قال قتادة بنُ دعامة السّدوسيّ رحمه الله في تفسيرها: لا تَقُل رأيتُ ولم تَرَ، وسمعتُ ولم تَسْمَع، وعَلِمْتُ ولم تَعْلَم. أيّ أنّ الله تعالى نهى عن القول بلا علم بل بالظّنّ الّذي هو التّوهّم والخيال. وهذا ما يقع فيه صاحبنا الّذي يعرف كلّ شيء، يقول جهلًا، ويحلّل وَهْمًا، ويُروّج خيالًا وضلالًا!. ومن دقائق التّعبير القرآني أن أعقب الله تعالى هذه الآية الناهية عن اتّباع الجهل أو القول بجهل بقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا}، وهذا حال (مَن يَعرِف كلّ شيء!) فإنّه يطلع مختالًا فخورًا على النّاس، يهزّ عطفيه ظنّا منه أنّه أبهر العالم!، وما علم المسكين أنّه أضحك العالم على بلادته وبلاهته!.وانظُروا إلى أدب العلماء الكبار ماذا يروون لنا، قال الإمام ابن عبد البرّ المالكي رحمه الله: قال أبو داود صاحب السّنن، حدثنا الإمام أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن إدريس الشافعيّ، قال: سمعتُ مالكًا يقول: سمعتُ ابن عجلان يقول: «إِذَا أَخْطَأَ الْعَالِمُ لَا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ». أي أنّ العالم إذا صار يتكلّم في كلّ المسائل ويجيب عن كلّ الأسئلة، ولا يقول لِما لا يعلم: لا أدري. أصيبت مقاتله. والمقاتل هي أعضاء جسم الإنسان الّتي إن أصيبت قتل الإنسان ومات. فهؤلاء الأئمة الكبار يروون لنا هذا الأدب العالي حتّى نتأدّب ونتخلّق. وقد تأدّبوا هم بذلك حقًّا وصدقًا، قال الإمام عبدُ الرّحمنِ بنُ مهديٍّ: سأل رجلٌ مِن أهل المغرب مالكَ بنَ أنسٍ عن مسألةٍ، فقال: «لا أدري»، فقال: يا أبا عبد الله: تقولُ لا أدري؟، قال: «نعم، فبلِّغ مَنْ وراءك أنِّي لا أدرِي». وأصحابنا الّذين يعرفون كلّ شيء لا يستحون أبدًا، ولا يخطئون ولو مرّة واحدة، فيقولون: معذرة لا أدري، ليس تخصّصي!. قال الإمام الحافظ أبو داود رحمه الله: “قَولُ الرّجلِ فِيمَا لا يعلمُ: لا أعلمُ نِصْفُ العِلمِ”.بل قال الصّحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه: «إِنَّ مَنْ يُفْتِي فِي كُلِّ ما يَسْتَفْتُونَهُ لَمَجْنُونٌ»، وقال الأديب الكبير ابن ُالمُقَفَّعَ: «مَنْ أَنِفَ مِنْ قول لا أدري تكلَّف الكذبَ»، ومعنى هذا أنّ هذا الّذي يعرف كلّ شيء، من عامة النّاس أو من المحلّلين متعدّدي المواهب، لا يخرج عن أمرين: إمّا أنّه مجنون وإمّا أنّه كاذب!، ولا أسوأ من هذا سوى هذا وبالعكس!.إنّه من الواجب على العاقل أن يعرف قدره ويقف عنده!. وأن يحترم عقول النّاس، فلا يقول ما يعنّ بباله ظنًّا منه أنّه لن يحاسب على كلامه!. وأن يحترم التخصّصات والمتخصّصين، وخاصة إذا كان يتحدّث من الفضائيات، فإنّ المسؤولية تزيد وتكبر!. وأن يحذر هؤلاء الّذين يحسبون أنفسهم يفهمون في كلّ شيء، ويعرفون في كلّ شيء إذا تحدّثوا في دين الله تعالى!. فإنّ الحساب على ذلك عسير، والنّاقد خبير!.

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات