الافتقار إلى الله.. حقيقة العبودية ولُبّها

+ -

يقول الحقّ سبحانه فـي قصة نبي الله موسى عليه السّلام: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إلى الظِّلِّ، فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.إنّ من أخصّ خصائص العبودية الافتقار المطلق إلى الله تعالى، فهـو حقيقتها ولبُّها، وقد عرَّفه أهل العلم بألّا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، أمّا إذا كنتَ لنفسك فثَمَّ ملك واستغناء مناف للفقر، فالفقر الحقيقي أن يشهد العبد في كلّ ذرّة من ذرّاته الظاهرة والباطنة فاقةً تامّة إلى الله تعالى من كلّ وجه. فالمفتقر إلى ربّه مجرِّد قلبه من كلّ حظوظها وأهوائها، مقبل بكليته إلى ربّه عزّ وجلّ، متذلّل بين يديه، مستسلم لأمره ونهيه، متعلّق قلبه بمحبّته وطاعته: {قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ}.والمتأمّل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أنّ الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى ربّه يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدّنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمّل في الصّلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد حينما يقف بين يدي ربّه في سكينة، خاشعًا متذلّلًا، خافضًا رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتّكبير، وفي ذلك دلالة جلية على تعظيم الله تعالى وحده، وترك ما سواه من الأحوال، وأرفع مقامات الذلّة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالرّكوع، ويعفِّر جبهته بالتراب، مستجيرًا بالله مُنيبًا إليه، ولهذا كان الرّكوع مكان تعظيم الله تعالى، وكان السّجود مكان السؤال، ففي الصّحيح من حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: كشف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السّتارة والنّاس صفوف خلف أبي بكر فقال: “أيّها النّاس، إنّه لم يبق من مُبشّرات النُّبوة إلّا الرُّؤيا الصّالحة يراها المسلم، أو تُرى له، ألَا وإنّي نهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، فأمّا الركوع فعظّموا فيه الربّ عزّ وجلّ، وأمّا السّجود فاجتهدوا في الدّعاء فقَمِن أن يستجاب لكم”.ولهذا كان من دعائه صلّى الله عليه وسلّم في ركوعه: «اللّهمّ لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي»، وذلك إشارة إلى أنّ خشوعه في ركوعه قد حصل لجميع جوارحه، ومن أعظمها القلب الّذي هو ملك الجوارح، فإذا خشع خشعت الجوارح والأعضاء كلّها تبعًا له، ومـن تمام خشـوع العبد لله تعالى في ركوعه وسجوده أنّه إذا ذلَّ لربّه بالرّكوع والسّجود، وصف ربّه حينها بصفات العزّ والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنّه يقول: الذلّ والتّواضع وَصْفي، والعلوّ والعظمة والكبرياء وَصْفك، فهذه المنزلة الجليلة الّتي يصل إليها القلب هي سرُّ حياته وأساس إقباله على ربّه، فالافتقار حادٍ يحدوّ العبد إلى ملازمة التّقوى ومداومة الطّاعة، ويتحقّق ذلك بأمرين متلازمين؛ أحدهما: إدراك عظمة الخالق وجبروته؛ فكلّما كان العبد أعلم بربّه وصفاته وأسمائه كان أعظم افتقارًا إليه وتذلّلًا بين يديه: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا}.فمَن تدبّر الآيات والأحاديث الّتي جاء فيها ذكر صفاته العلى وأسمائه الحسنى، انخلع قلبه إجلالًا لربّه، وتعظيمًا لمقامه، وهيبة لسطوته وجبروته سبحانه، ففي الصحيح من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال عليه الصّلاة والسّلام: «يطوي الله عزّ وجلّ السّماوات يوم القيامة ثمّ يأخذهن بيده اليمنى ثمّ يقول: أنا الملك، أين الجبّارون، أين المتكبّرون، ثمّ يَطوي الأرضين بشماله ثمّ يقول: أنا الملك، أين الجبّارون، أين المتكبّرون». أمّا الأمر الثاني: فهو إدراك ضعف المخلوق وعجزه؛ فمَن عرف قدر نفسه، وأنّه مهما بلغ في الجاه والسلطان، فهو مخلوق صغير عاجز ضعيف، لا يملك لنفسه صرفًا ولا عدلًا، تصاغرت نفسه، وذلّت جوارحه، وعظم افتقاره لمولاه والتجاؤه إليه: {فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ، إنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}.إمام مسجد عمر بن الخطاب– بن غازي - براقي

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات