+ -

انتشار الخطأ سهل... وتصحيحه صعب جدًّا!

شاع عند المسلمين التّسمية بعبد السّتار، وليس من أسماء الله تعالى (السّتّار) عند أكثر علماء المسلمين الّذين يرون أنّ أسماء الله تعالى توقيفية، أي لا يُعدّ اسمًا من الأسماء الحسنى إلّا إذا جاء صريحًا في الكتاب والسنّة. وهذا لم يرد صريحًا لا في القرآن العظيم ولا في السّنة الشّريفة.ومع هذا عدّه بعض كبار علماء السنّة من أسماء الله الحسنى، منهم: الإمام أبو عبدالله محمد بن إسحاق بن مَنْدَه العبديّ المحدث الكبير، والإمام أبو عبدالله محمد بن أحمد القرطبي المالكيّ المفسر الكبير، والعلامة الشّهير عبدالرّحمن بن ناصر السعديّ رحمهم الله تعالى؛ لتضمّنه معنى الكمال، واشتقاقًا من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» رواه ابن ماجه. وعلى هذا فقول بعضهم: إنّ هذا الاسم لم يعدّه العلماء مطلقًا من أسماء الله الحسنى مردود عليهم، وهو قصور في العلم، وتقصير في البحث!. ومن علم حجة على من لا يعلم.كما شاع عند المسلمين قولهم عند حدوث حادث: يا ستّار، وهذا أمر جائز؛ لأنّه دعاء، وليس تسمية، كما ندعو مثلًا جميعًا بلا إنكار من أحد فنقول: يا كاشف الغمّ.. يا فارج الهمّ.. وليس من أسماء الله سبحانه وتعالى (الكاشف) أو (الفارج) كما هو معلوم. وكذلك يجوز القول: يا ستّار على سبيل الدّعاء مع أنّه ليس من الأسماء الحسنى. وهذا أمر بيّن واضح. وإن كان الأولى أن نقول: يا حافظ؛ لأنّه اسم ورد في القرآن الكريم في مواضع، منها قوله تعالى: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.والعجيب أنّ مَن أراد تصحيح ما يراه خطأ في إطلاق هذا الاسم (السّتار) وإطلاق ذلك القول (يا ستّار) وقع هو الآخر في الخطأ والغلط، حيث دعا لاستبدال اسم (السّتّار) باسم السِّتير!. وهذا خطأ شنيع، ولكنّه شاع وذاع وانتشر، والسّبب أنّه انتقل من شخص لآخر دون بحث ولا تفكير، ثمّ هذا الخطأ شاع حتّى عند طلبة العلم وأئمة المساجد وبعض العلماء، والخطأ إذا شاع عند هؤلاء، وتولّوا هم ترويجه ونشره يصعب على عامة النّاس الانتباه إلى مكمن الخطأ فيه!.ولبيان وجه الخطأ أقول: جاء في الحديث عن يعلى بن أمية رضي الله عنه أنّ رسول الله رأى رجلًا يغتسل بالبراز، «فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: إنَّ الله عزّ وجلّ حَيِيٌّ سِتِّيرٌ (أو سَتِيرٌ) يُحبّ الحياءَ والسّتْرَ، فإذا اغتسلَ أحدُكم فليَسْتَتِرْ» رواه أبو داود والنّسائيّ. وسياق الحديث يبيّن بوضوح معنى سِتِّيرٌ (أو سَتِيرٌ)، وهو من يحبّ السّتر والصّون. أي ستر عيوب النّاس وفضائحهم، قال الإمام التّوربشتي الحنفيّ رحمه الله: “يعنى أنّ الله تعالى تاركٌ للقبائح، ساترٌ للعيوب والفضائح، يحبّ الحياء والسّتر من العبد؛ ليكون متخلّقًا بأخلاقه تعالى، فهو تعريض للعباد، وحثّ لهم على تحري الحياء والتستر”. فسِتّير أو سَتير هو في باب ستر عيوب النّاس ونقائصهم وفضائحهم أدبا وحياءً؛ ولهذا قرنه صلّى الله عليه وسلّم باسم الحيي. أمّا ما شاع عندنا من قول: يا ستّار، فهو في طلب الحفظ من الحوادث والأذى والمصائب، وشتّان بين هذا وذاك.ومن هنا يظهر لنا أنّ من استبدل (يا ستّار) بـ(يا ستّير) ظنًّا منه أنّ هذه هي السُّنة، قد أخطأ خطأ فاحشًا، بل خطأين!، الخطأ الأوّل: أنّه لم يفرّق بين مقام التّسمية ومقام الدّعاء، فمقام التّسمية -أيّ تحديد أسماء الله الحسنى- يجب الالتزام فيه بما ورد في الكتاب والسُّنّة، وأمّا مقام الدّعاء فيجوز استعمال: يا ستّار.. يا ساتر.. كما يجوز: يا كاشف الغمّ.. يا فارج الهمّ.. والّذي لا يفرّق بين المقامين يضيّق واسعًا، ويشقّ على النّاس بغير وجه حقّ. والخطأ الثاني: وهو أشنع من الأوّل، هو الجهل بمعنى اسم الله تعالى (السِّتّير أو السَّتير) وتنزيله تنزيلًا خاطئًا، واستعماله في غير موضعه. إذ هو بمعنى من يستر النّاس، وهو يستعمله بمعنى من يحفظهم من الأذى. والأعجب من كلّ هذا أن يتم هذا الخلط والغلط باسم السُّنّة والتحقيق العلمي!.ليس الغريب وقوع الخطأ من النّاس، ولا انتشاره بينهم!، بل الخطأ ملازم لبني آدم مُذْ كانوا!، ولكن الغريب هو انتشار الخطأ باسم العلم، وانتشار الخطأ بين طلبة العلم دون بحث ولا تحرٍّ، يأخذه الواحد عن الثّاني بثقة فقط، فما دام القائل من أهل العلم، وما دام من أهل الحقّ، وما دام ممّن أنا معجب بهم، فهذا يعني صحة ما قال وصواب ما عمل؛ لأنّه لا يقول إلّا بدليل، ولا يعمل إلّا بعد بحث وتنقيب!. وهذا هو التقليد البارد أو الجهل الفاضح حين يظهر في لبوس العلم!. والأغرب حقًّا هو سرعة انتشار الخطأ، وسرعة انتشار الجهل، وسرعة اعتقاد النّاس له، وسرعة انقيادهم لحكمه، في مقابل صعوبة تصحيحه وردّ النّاس إلى الصّواب!. وليس هذا خاصًا بأمور الدّين والفُتيا، بل هو عام في كلّ شؤون الحياة ومناحيها، وإنّما ذكرت ما ذكرت تمثيلًا وتنبيهًا. فكم هي الأمور الّتي شاعت وذاعت وراجت حتّى عند المتخصصين وطلبة العلم وفي وسائل الإعلام... وما هي إلّا خطأ محض، زيّنه للنّاس انتشاره بينهم أو بين نخبتهم من غير نكير لا غير!، فلا قيمة له إلّا الانتشار، ولا حجّة تنصره إلّا الذّيوع، ولا برهان عليه إلّا الشّيوع!. وعلى الدليل والحجة والبرهان السلام!.*إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات