38serv

+ -

لا تخلو الحياة من مواقف تلزم المرء بتقديم شهادة وتلجئه إلى إصدار حُكمًا،في حقّ أشخاص أو أفكار أو أحداث أو مذاهب أو طوائف... إلخ، في شؤونعلمية أو ثقافية أو سياسية أو دعوية أو فكرية.. إلخ.❊ يحلو لكثير من النّاس عند إصدارهم الأحكام أو الشّهادة في قضية ما أن يطلقوا الحكم والشّهادة!، وكأنّه الحقّ القطعيّ اليقينيّ الّذي لا يشكّ فيه شاكّ، ولا يرتاب فيه أحد، ولا يخالفهم فيه ذو عقل!. مثل صنيع بعض عشّاق الشّابكة (الأنترنت) ومواقع التّواصل الافتراضي في عنونة مشاركاتهم: أروع كلمة تسمعها في حياتك.. أجمل مقطع تراه.. إذا لم تر هذا لم تر شيئًا.. أروع خطبة تسمعها.. لا يهمّك ما فاتك بعد سماع هذا.. ولا أروع.. ولا أجمل... إلخ. ومثل صنيع بعض المثقفين: أحسن كتاب تقرأه.. أروع رواية.. أعلم علماء الجزائر.. فقيه العصر.. محدّث العصر.. أكبر مفكّر.. إلى آخر التّزكيات الذّاتية الّتي تعبّر عن رأي مُطلقها لا غير، وقد تكون أبعد عن الصّواب بعد المشرقين؛ لأنّها مبنية على تجربة ذاتية تخصّ صاحبها، وهو بلا ريب غير مطلّع على الغيب، ولا يملك الحقّ المطلق، وليس بريئًا من الهوى والعاطفة والتّحيّز!. فهو يقول مثلًا: ولا أروع.. ولا أجمل.. أعلم.. أفقه... لقلّة اطلاعه وجهله الكبير بما وراء الأكمة!.إنّ اختيار الواحد منّا لأمر ما أو لشيء ما أو لشخص ما وتفضيله على غيره، واعتباره الأفضل أو الأعظم أو الأروع أو الأعلم أو الأصدق.. إلخ، نابعٌ أساسًا من قناعاتنا وتوجّهاتنا، وهو مشوبٌ قطعًا بميولنا ونوازعنا، ومصبوغ حتمًا بعواطفنا حبًّا وبُغضًا، ومتأثّر ضرورة بجهلنا؛ لأنّ أحكامنا وشهاداتنا تستند في الغالب على ما نعلم بخصوص الأمر أو الشّخص الّذي نحكم عليه أو نشهد، وغالبًا ما يكون ما نجهله في حقّهما أكثر بكثير ممّا نعلمه عنهما!، فمثلًا حين يقول قائل: فلان أعلم علماء الجزائر!، أو فلان أعلم علماء الحديث المعاصرين، فقوله هذا ذاتي لأبعد الحدود، ولا وزن له ولا معنى، وإن كان يُغري البعض ويغرّهم، ذلك أنّ المفترض في من يطلق مثل هذا الحكم ويقيم مثل هذه الشّهادة أن يكون أعلم من علماء الجزائر كلّهم حتّى يستطيع أن يحكم عليهم، وأعلم من علماء الحديث المعاصرين كلّهم أيضًا. وأن يكون قد امتحن كلّ علماء الجزائر ليعرف مستواهم حتّى يوازن بينهم، ويمتحن كلّ علماء الحديث أيضًا، وأن يكون موقفُه من علماء الجزائر كلِّهم واحدًا، لا تأثير فيه للانتماء لمذهب ولا رأي ولا فرقة ولا جماعة ولا حزب.. وكذا موقفه من علماء الحديث المعاصرين!. إلى آخر الاعتبارات الّتي تؤثّر في مثل هذه الأحكام والشّهادات!. ممّا يوجب على العاقل الإمساك عن الخوض في مثل هذه الموضوعات استبراءً لدينه وعرضه، فإنّ الله عزّ شأنه يقول: {.. سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُون}.إنّ إصدار الأحكام والشّهادات لا يجوز شيءٌ من ذلك إلّا إذا استند إلى العلم، وإذا استحال على البشر إدراك العلم المطلق؛ لقصورهم ونقصهم وضعفهم، فيجب عليهم عدم إصدار الأحكام والشّهادات المطلقة، قال الإمام الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى: ”قال الله جلَّ ثناؤُه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ، كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}، وقال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}،.. وقال: {وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ}، قال الشّافعيُّ: ولا يَسعُ شاهدًا أَنْ يَشهدَ إلَّا بِما عَلِمَ”. وقال العلّامة عبد الرّحمن بن ناصر السّعديّ رحمه الله: ”لا يجوز للإنسان أن يشهد إلّا بما علمه، وتحقّقه إمّا بمشاهدة أو خبر مَن يثق به، وتطمئن إليه النّفس [وفي الأحكام المطلقة لا يقبل إلّا الوحي]؛ لقولهم [أي إخوة يوسف عليه السّلام]: {وَمَا شَهِدْنَا إِلّا بِمَا عَلِمْنَا}”.إنّ ممّا يُوَكّد هذا المعنى البديهي هو أنّ كلّ واحد منّا آمن حينًا من الدّهر ببعض الأمور، واقتنع ببعض الأفكار، وأعجب ببعض الأشخاص، وبالغ في إيمانه وقناعته وإعجابه، وربّما عادى غيره وأبغضهم على ذلك، ثمّ تبيّن له بعد ذلك -وقد يفجأ- أنّه كان مخطئًا تمام الخطأ في تقديره، أو أنّه كان مبالغًا في حكمه وشهادته!. والعرب قالت في أمثالها [وقد روي عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم]: حبّك الشّيء يُعْمِي ويُصِمُّ، وكذلك بغضك الشّيء يفعل!. ”والصّمم هنا مجازٌ عن عدم الإصغاء إلى المسموع وعدم الانتفاع به. فكأنّه أصم لا يسمع، والعمى أيضًا مجاز يراد به عمى البصيرة، وهو أدقّ وأليق بالمقام، فحبّك للشّيء يعميك عن مساويه، ويصمّك عن استماع العذل فيه”، وبغضك للشّيء يعميك عن محاسنه، ويصمّك عن استماع العذر فيه!.* إمام وأستاذ الشّريعة بالمدرسة العليا للأساتذة

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات