+ -

شهدت بلادنا، هذه الأيّام، حوادث مرور رهيبة راح ضحيتها العشرات من الأرواح البريئة، ما يتطلّب منّا التنبّه ودقّ ناقوس الخطر لهذه الظّاهرة المتفاقمة، والّتي هي في تزايد مستمرّ..إنّ دعوة النّاس إلى تحمّل مسؤولياتهم نحو أنفسهم ونحو غيرهم واجتناب الضّرر أو التسبّب فيه للنّفس وللغير يدخل في صميم الدّين وجوهره، باعتبار أنّ الدّين الإسلامي بنيت أوامره ونواهيه وتشريعاته كلّها على درء المفسدة وجلب المصلحة للإنسان. وإنّ المصلحة المرسلة هي دليل وجوب الالتزام بالأنظمة المرورية الّتي تضعها الدول الحديثة، فيما تنظّمه من إجراءاتها من حفظ لمقصود الشّرع في الأنفس والأموال، ولو اقتضى الأمر إلى سنّ العقوبات الزّاجرة لمن يخالف تلك الأنظمة المصلحية، والعمل بالمصلحة المرسلة حجّة عند الأكثر من أهل العلم كما هو معلوم.فالأصل أن تكون الطرق واسعة يسير فيها النّاس بحرية كاملة، وبأمان كامل على أنفسهم وأموالهم. والطرق لجميع المسلمين وليست ملكًا لأحد، ولا يجوز لأحد أن يتصرّف بها على انفراد، وقد منعت الشّريعة الإسلامية التّزاحم على الطّرق العامة أو الجلوس في الطّرقات تأمينًا لحرية الطريق وحتّى يتمكّن المسافرون من التنقّل بيسر وسهولة.ومن باب تحمّل المسؤولية في تسهيل الطرق ما فهمه عمر بن الخطاب، أنّ الحاكم مسؤول عن تسهيل الطرق، وأنّها من مهمّاته الأساسية الّتي يجب أن يعطيها اهتمامه، يقول: (لو عثرت ناقة.. إذا لم أسو لها الطريق). فالطرق والجسور بناء وإصلاحًا، وكلّ المرافق إنشاء وصيانة، وتسهيل الطرق والمواصلات من المصالح العامة الّتي يعود نفعها على كافة المسلمين، والحاجة الماسة تدعو إلى تحقيقها حفظًا لراحة المسلمين وسدًّا لحوائجهم وتحقيقًا لمنافعهم، ومن هنا أجاز الفقهاء الوقف على المصالح العامة كبناء الطرق والجسور.ومن القواعد المهمّة الّتي تضبط حقوق النّاس في حوادث المرور، قول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: “لا ضرر ولا ضرار”، وهذا الحديث يقرّر قاعدة كلية هي من مبادئ الشّريعة الإسلامية من رفع الضّرر وتحريم الإضرار بالغير، وهذا الحديث إذا تأمّلنا فيه لا يكتفي بتحريم إضرار الغير فقط، بل يشير إلى وجوب الضمان على من سبّبه.إنّ الحذر وعدم التّفريط في الأمور اتّكالًا على القدر أمر مطلوب في الدّين، فإذا كان لكلّ قدر سبب، فإنّ من أسباب النّجاح في العمل هو الأخذ بالأسباب، وكذا فإنّ سبب الخيبة والفشل هو التّفريط وترك العمل.ففي مدح التُّؤدة والأناة في كلّ الأمور كلّها، يقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في وصف رجل: “إنّ فيك لخصلتين يحبّهما الله: الحِلم والأَناة”. ويقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، فهذه الآية تشير إلى أنّ المسلم المتهوّر الّذي لا يقدّر الأمور ولا يعرف أنّ السّرعة الزّائدة في وسائل النّقل المختلفة تؤدّي إلى الخطر والهلاك، هو بهذا التصرّف الأرعن يضرّ بنفسه وهو مفرّط في أمره.ومن توجيهات القرآن الكريم قوله تعالى: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ}، ففي هذه الآية يظهر أنّ لقمان عليه السّلام رسم لابنه الخُلُق الكريم الّذي ينبغي أن يستعمله وهو التوسّط في المشي، والقصد هو التوسّط في المشي ما بين الإسراع والبطء، وقد رُوي أنّ “سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن”، وقال صلّى الله عليه وسلّم أيضًا: “الأناة من الله والعجلة من الشّيطان فتبيّنوا”، والتبيّن ضروريّ حتّى لا يقع الإنسان في المخاطرة والتسرّع وعدم أخذ الحيطة والحذر.ولابدّ من المراقبة ومتابعة السّائق في سلوكه ليسلك أسلم الطرق، ولكي لا يخالف قواعد السّير العامة وينصح السّائق بضرورة المحافظة على أرواح النّاس والسّير ببطء عند الازدحام أو تغيير الطريق عند حدوث الانزلاقات وتغيّر الطقس ونزول الأمطار والثلوج.ومن ذلك وضع إشارات المرور على الطرق للدلالة عليها لمعرفة الاتجاهات وأماكن التوقّف الآمنة والتوقّف في الأسواق والطرق السّريعة، ولا شكّ أنّ مسؤولية الآباء مسؤولية كبيرة في هذا المجال، وتتّخذ الإدارة المرورية النّاجحة التّدابير اللازمة لإصلاح أولي الاستعداد للمخاطرة والإيذاء، لأنّ الشّريعة حثّت الإنسان على مراقبة النّفس، حيث يجعل من ضميره رقيبًا حيًّا يقظًا متحرّكًا يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ويَسأل نفسه قبل أن يُسأل، ومن هنا يرتقي الإنسان فلا يخضع للشّهوات والرّغبات أو إلى هوى النّفس والرعونة والطيش في السّواقة. أسأل الله أن يقينا شرّ الحوادث والأضرار، وأن ينعم علينا بالأمن والإيمان.

[email protected]

مقال مؤرشف


هذا المقال مؤرشف, يتوجب عليك الإشتراك بخطة الممتاز+ لتتمكن من الإطلاع على المقالات المؤرشفة.

تسجيل الدخول باقة الاشتراكات